من الطبيعي أن تخسر التنظيمات الإرهابية أراضي سيطرت عليها، ولكن التنظيمات ليست دولاً ولا حكومات.
لم تمضِ أيام على الاغتباط الدولي بالحديث عن «نهاية تنظيم داعش»، إلا وضرب انتحاري بشكلٍ وحشي بالقرب من الجامع الأزهر. استهداف يفتح النقاش على الأحاديث المستعجلة الساذجة حول نهاية هذا التنظيم أو ذاك.
راقبنا طوال عقدين تطور تنظيم «القاعدة» وكيف تشكّل وتطوّر وتحالف وتمركز في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب. وضع له عواصم فعّالة، ولعب على وتر القبائل، واستطاع بسط سيطرته الميدانية في أكثر من مكان، ولكن نقطة التحوّل بدأت في عام 2006، حينها تصاعدت الأصوات المتفائلة التي تظنّ أن تنظيم «القاعدة» قد انتهى فقط لأن العالم قصم ظهر التنظيم ولاحق قياداته بالطائرات المسيَّرة وجعل حركتهم أقل، وأضعف من قدرتهم على التجنيد، واستطاع ردم منابع التمويل، حينها لم أؤمن بتاتاً بأن التنظيم قد انتهى وذلك لأسباب موضوعية تتعلق بطريقة تشكل التنظيم وتمدده وحركته. زعم بعضهم أن التنظيم قد انتهى لكنه خرج من الباب وعاد من الشباك.
بعض الدول الإسلامية لديها نظم برلمانية رموز التطرف معششون فيها، مما يمنعها من الدخول في عش الدبابير والقبض على المخاطر النظرية ونقدها ولجم الخطاب المتطرف عبر عمل مؤسساتي ثقافي فكري اجتماعي قبلي وذلك يأتي بموازاة المواجهة الأمنية الضرورية
الشيخ الدكتور محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، يحذّر من ذلك الركود تجاه التنظيمات والذي قال بوضوح تام خلال لقاءاته في كلٍّ من معهد واشنطن، والمجلس الوطني للعلاقات الأمريكية - العربية في واشنطن: «أحذِّر من التساهل مع التنظيمات المتطرفة مثل تنظيم (داعش). إن (القاعدة) يظل أخطر، وإنه حالياً في وضع كمون ينتظر ضعف المناعة لينشط مجدداً. إن الهزيمة الكاملة للتطرف العنيف والتطرف الإرهابي لا تكون إلا من خلال تفكيك أفكاره التي بنى عليها كيانه الهش».
رؤية مهمة تتحدث عن الإرهاب بواقعية من دون الدخول ضمن أوهام نهايات التنظيمات أو أفولها.
من الطبيعي أن تخسر التنظيمات الإرهابية أراضي سيطرت عليها، وذلك من خلال القصف الجوي أو المدد الميداني، ولكن التنظيمات ليست دولاً ولا حكومات، وبالتالي حين تُطرد من العراق، ومناطق شاسعة في الشام فإنها تفر إلى مناطق أخرى تستطيع أن تتمركز فيها وبخاصة المناطق الهشة في الساحل الأفريقي أو أجزاء من شمال أفريقيا، أو التغلغل في دول أوروبية تمتلك فيها حاضنة ومأوى مثل بلجيكا التي ضرب بها «داعش» بكل قسوة، ولا تزال الإشارات على وجود خلايا نائمة في أوروبا قائمة، والأحداث الأخيرة وإن كانت محدودة غير أنها تعلن عن قوة التنظيم وقدرته على الاستهداف، هذا من الناحية الميدانية البحتة.
ولكن على المستوى النظري فإن أي إعلان لنهاية تنظيم إرهابي شرطه القدرة على سحق التطرف ومحاربة المحاضن النظرية التي تنبت فيها الطروحات التكفيرية، وبخاصة مفاهيم مثل الخلافة، والحاكمية، وتجهيل المجتمعات، ونشر ثقافة الإضراب عن الدنيا والتأفف من الحكومات. ونرى الآن ثقافة التطرف منتعشة في العالم الإسلامي، والحرب عليها ضعيفة للغاية، لسببين اثنين؛ الأول: أن التطرف سابق على الإرهاب، والمفاهيم المرتبطة به منتشرة ومبثوثة ضمن خطاب ليس كله معلناً بل أخطره الخفيّ والمضمر، ومن دون فحص قوي لطرق التعبير وأساليب الأمر والنهي، ونظام الخطاب المطروح فإن أي مهمة ستكون فاشلة. السبب الثاني: أن بعض الدول الإسلامية لديها نظم برلمانية رموز التطرف معششون فيها، مما يمنعها من الدخول في عش الدبابير والقبض على المخاطر النظرية ونقدها ولجم الخطاب المتطرف عبر عمل مؤسساتي ثقافي فكري اجتماعي قبلي وذلك يأتي بموازاة المواجهة الأمنية الضرورية.
طوال عقود الإرهاب المريرة وصعود جماعة «الإخوان المسلمين» في الثلث الأول من القرن العشرين مع بدء تشكل الدول الحديثة التي هي منبعه الأساسي، كان سؤال الهوية أبرز سبب لانتشار مفاهيم التطرف والعنف. جميع الكتابات الإخوانية التي تتحدث عن جاهلية القرن العشرين، وضلال الحكومات، وضرورة الحرب ضد الغرب، قدحت من ضمن جذوات اشتعالها مع قلق الهوية، لم يكن الارتباط بمفهوم الدولة حاضراً في الخطاب، بل تم تعميم الخطاب الأممي، ورثت الشمولية الإسلامية أنقاض الأممية القومية -كما يعبر محمد جابر الأنصاري- وكتب سيد قطب مؤلفاته كلها منطلقاً من انعدام إيمانه بانتمائه لمصر على مستوى الدولة أو المجتمع بتاريخه وإرثه وثقافته وآدابه، ورث هذا الإنكار كل المنظرين للمفاهيم أو الموجَّهين العسكريين، وباتت الهوية لدى «الإخوان المسلمين» والجماعات المتطرفة منعدمة، الخطوط للانتماء عريضة، الأمة هي المرجع، وتحقيق الخلافة هي الهدف، والمرشد الأعلى (سواء لـ«الإخوان»، «القاعدة»، «داعش»، «بوكو حرام»، «حزب الله») هو الموجه السياسي والمفتي والناصح وطاعته بها النجاة من الكفر في الدنيا وصولاً للنعيم المقيم بالآخرة.
إن جميع المتطرفين في العالم يعادون الدولة ويعارضون «العقد الاجتماعي» ويطمسون الفرد.. هذا هو هيكل التنظيم الأساسي. ويمكن التذكير مجدداً بكتابٍ رائع لبول دوموشيل بعنوان «التضحية غير المجدية - بحث في العنف السياسي»، وفيه يشرح نظرية توماس هوبز للدولة وعلاقات الدولة والعنف والجماعة المارقة. تفضل الجماعات المارقة العيش في ما يعرف بـ«حالة الطبيعة» التي تسبق الدولة، وشعارها «حرب الجميع ضد الجميع» من دون عقد اجتماعي، أو قانون نافذ، أو مؤسسة فاعلة، وضع أشبه ما يكون بالغابة، به تتجلى حالة «السبع» أو «الذئبية»، إنها حرب أبدية من دون مبرر، بينما مفهوم الدولة يحقق العقد الاجتماعي الضابط لعلاقات الأفراد بالمجتمعات وبالدولة، ومهمة الدولة نزع السلاح من أجل أن تحتكر وحدها استخدام العنف، وذلك ضمن القانون ومهام كل مؤسسة لإنفاذ العدالة المنصفة.
هذا بيان للناس، أن الإرهاب لم ينتهِ، وحذار أن تطمئن الحكومات والمؤسسات الأمنية، والصروح الفكرية لهذا الوهم. إن خروج «داعش» من أراضٍ معينة لا يعني أبداً نهاية التنظيم، ويا له من وهمٍ خطير إنْ انطلى على أحد. والحال يشبه قول الشاعر الحكيم خلف بن هذال العتيبي:
ولا تامن فروخ الداب ولو عاشن وابوهن مات
يجنّ الظهر بانيابٍ تنسّل كنها انيابه
صحيح أهل القرى ماياخذون إلا على الغفلات
عِبرْ والمعتبر يعيا الأمور وياخذ حسابه
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة