الولايات المتحدة تبحث عن حل لأزمة عناصر داعش التي خرجت عن السيطرة وتوجهت إلى العراق وإلى الحدود السورية الأردنية.
في تغريدة لها أهميتها من حيث التوقيت والهدف أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسالة هي أقرب إلى التحذير إلى الدول الأوروبية بضرورة السماح بعودة 800 عنصر من عناصر داعش إلى بلادهم وأن على الدول الأوروبية ضرورة استيعابهم في الفترة المقبلة، وإلا فإنه سيعمل على الإفراج عنهم، وتركهم لحال سبيلهم في إشارة إلى أن البدائل أمام دول الاتحاد الأوروبي صفرية، ولن يكون في مقدور الدول الأوروبية رفاهة القبول أو الرفض، وإنما الانصياع المباشر لما يقوله الرئيس الأمريكي في الوقت الذي بدأت فيه الإدارة الأمريكية تنفذ مخطط الانسحاب من سوريا، وهو ما يمكن أن يتم في مارس المقبل لتخرج القوات الأمريكية إلى مواقع أخرى منها القاعدة الرئيسية؛ ما يعتبره البعض إعادة انتشار، وليس انسحابا بالمعنى العام.
علينا أن ننتظر لنرى كيف ستتعامل الإدارة الأمريكية، وعلينا أيضا أن نرتب خياراتنا، وبدائلنا العربية ليس في سوريا، وإنما أيضا في التفاهمات الأمريكية التي ستطرح في إطار ما يعرف بصفقة القرن، وسائر التسويات الأخرى في المحيط العربي الذي ما زال غير مستقر.
وتستمر التباينات في الموقف الأمريكي؛ حيث تسود حالة التحفظ على شكل وإطار الانسحاب الأمريكي من سوريا، وما ستقوم به الإدارة الأمريكية بالفعل عقب الانسحاب من ترتيبات أمنية واستراتيجية ممتدة في الوقت الذي لا تزال هناك مجموعة من الجنرالات الأمريكيين الكبار يتحفظون على خطوة الانسحاب الكامل وقدموا سلسلة من المقترحات العملية، والتي ترتبط بضرورة ممارسة أطراف أخرى بدور القوات الأمريكية، وسيحتاج إلى إعادة تحديد المهام والأدوار والمسؤوليات للقوات الغربية كاملة. ومن ثم فإن السؤال المشروع حول الرسالة الأمريكية للدول الأوروبية في هذا التوقيت والبحث عن البديل لا سيما بعد أن اتضح أن النقاش الأمريكي مع الدول العربية لم يفلح في إقناع بعض الدول العربية في الاستجابة التكتيكية لإرسال قوات عربية لملء الفراغ الأمريكي خاصة مع وجود إشكاليات ليست متعلقة فقط بالوجود التركي، ولكن في المرحلة التالية لوقف الحرب في سوريا والبدء في إعادة تعويم النظام السوري، وهو أمر سيأخذ بعض الوقت من قبل الجانب الروسي ويكاد يشابه إعادة نظام الرئيس جمال عبدالناصر في مصر بعد هزيمة 1967.
في هذه التطورات السريعة، التي تشمل الأطراف الرئيسية، يظل الموقف الأمريكي باحثا عن نقطة انطلاق ومصالح غير واضحة تفتقد آليات التأثير والفعالية الحقيقية التي يمكن العمل من خلالها، وهو ما سيتزايد حال الانسحاب الكامل والبقاء في العراق؛ حيث سيكون الجانب الأمريكي على منأى من الأطراف الرئيسية الأخرى التي ستراجع مواقفها بعد الانسحاب الأمريكي خاصة الجانب الإيراني والتركي وستصطدم المصالح وتتباين المواقف والطموحات في سوريا، كما سيدخل الأردن وإسرائيل هي الأخرى على الخط وفق أجندة مصلحية نفعية لها أسس لا يمكن للأطراف العمل بدونها أو التخلي عنها في ظل وجود الجانب الروسي الفاعل الرئيسي، والكبير والذي سيكون وحده من سيقرر المصالح والأولويات والسياسات بمعنى الكلمة.
ومن ثم فإن الجانب الأمريكي أمامه بدائل واقعية للاستماع والإنصات للجنرالات الأمريكيين وخبراء البنتاجون والذين يطالبون بمراجعة الموقف الأمريكي من خلال طرح دور أوروبي إما أن يتم بتنسيق فرنسي الماني بريطاني، أو من خلال قوات نوعية لحلف الناتو بهدف ملء الفراغ الأمريكي على أن تبقي القوات الأمريكية في صورة هامشية، ومن خلال قوة نخبوية تركز بالأساس على العمل الاستخباراتي أو اللوجستي. وفي حال رفض الجانب الأوروبي وتحفظ على استعادة عناصرها في تنظيم داعش، والذين تعتقلهم الولايات المتحدة في معتقلات في سوريا فإن البديل هو إما القبول بالنهج الأمريكي، وإما الانفصام والاستمرار في حالة التجاذب الراهن والمستمر منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وانخراط الاتحاد الأوروبي في اتفاق بديل ما زال قيد الاختبار، وفي ظل آلية أوروبية إيرانية تحفظت الولايات المتحدة عليها منذ البداية، بل عملت على إفشالها ثم بدأت تفعيل منظومة العقوبات التي تفرضها على إيران وتتمسك بها، وقد تخلت عن مشروعها السياسي والأيديولوجي في الإقليم وتوقفت عن تدخلها في المنطقة، وهو أمر من الصعب تصور حدوثه مع نظام إيراني عنيد ومتصلب ومهدد حقيقي لأمن المنطقة بأكملها.
من الواضح إذا أن الولايات المتحدة تبحث عن حل لأزمة عناصر داعش ليس فقط الـ800 عنصر، وإنما آلاف العناصر الأخرى التي خرجت عن السيطرة وتوجهت إلى العراق وإلى الحدود السورية الأردنية، وإلى الجنوب حيث ليبيا وتشاد ومناطق التماس الأخرى سواء سيناء أو اليمن وغيرها من المناطق المرشحة لإعادة تمركز هذه العناصر، والتي لن تعود إلى بلادها إما لرفض أوروبي، وإما بحثا عن دور جديد ربما لا يرتبط بالمكان الجغرافي مثلما كانت ولاية تنظيم دولة الخلافة إلى موقع آخر غير محدد، وهو الأهم لتبدأ المواجهات على أرضية جديدة من العراق وعدة جيوب في سوريا. ذلك يعني أن الولايات المتحدة ستستمر في سعيها لحسم هذا الملف الشائك خاصة أن ولايات داعش في أقاليم أخرى ما زالت قائمة حيث الخطر المقبل من الفلبين ومالي ونيجيريا وإندونيسيا ومناطق أخرى في مناطق الجنوب وبالتالي فإن التخوف الأمريكي من إعادة تدوير عناصر داعش لدورها لتبدأ مرحلة جديدة في مواجهة الولايات المتحدة والعالم وأوروبا مخطط رئيسي من هذا.
ولهذا فإن ملف التعامل الأمريكي في سوريا ما زال يحمل تفاصيل كثيرة لن تنتهي بالخروج الكامل أو المنقوص دفعة واحدة أو على مراحل؛ فالأساس أن المصالح الأمريكية غير المرتبة وغير الواضحة ستكون على المحك في ظل صراعات الأطراف الأخرى على التسوية التي ستجري في سوريا، والتي ستكون تسوية مؤقتة وغير كاملة إلى حين اتضاح الرؤية الشاملة لمصالح كل طرف خاصة أن تنظيم الدولة لا يزال ناشطا في سوريا، ولن تتمكن قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا وحدها من التعامل مع هذا التهديد. كما أن المناقشات الحالية مع قوات سوريا الديمقراطية ليست بشأن بقاء قوات أمريكية وإنما بشأن ما يمكن أن يقوم به أعضاء التحالف الدولي ضد داعش.
إن خروج العناصر المحسوبة على تنظيم داعش إلى أي بقعة في الإقليم، وليس خارجه ستمثل خطرا حقيقيا على الاستقرار في المنطقة مع التوقع بحدوث حالة من عدم الاستقرار الكامل لامتلاك هذه العناصر خبرات وإمكانيات حقيقية للتعامل والانتشار، وهنا سيواجه العالم موجة جديدة من عمليات إرهابية غير مرتبطة بالبعد المكاني إلى مجال فسيح ومتسع من الخيارات في التعامل ليس في سوريا، وإنما في كل دول الإقليم بأكمله انطلاقا من العراق تحديدا. وتعد مسألة عودة الجهاديين الأجانب إلى بلادهم خاصة مع قرب إعلان سقوط تنظيم داعش معضلة تؤرق العديد من الدول العربية والأوروبية، بالإضافة إلى تركيا وروسيا ومن الدول المهتمة بإعادة هؤلاء تونس والمغرب والسعودية وتركيا وروسيا، وكذلك فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا.
إن تغريده الرئيس الأمريكي ترامب ليست إلا مدخلا لما هو قادم من سيناريوهات حقيقية في التعامل مع مهددات تنظيم داعش في الفترة المقبلة، وهو دور سينوط به الجانب الأمريكي -بصرف النظر عما يجري من انسحاب بالقوات على الأرض- ومن المهم أن تتحمل دول الاتحاد الأوروبي دورها أيضا، وسيكون الدور التالي على الدول العربية، وهو ما ترتب له الإدارة الأمريكية من خلال توافقات عربية أمريكية قادمة من خلال طرح جديد للناتو العربي في إطار تجمع ميسا أو خارجه.
يبقى التأكيد إذا على أننا أمام سيناريو جديد قديم تسوق له الولايات المتحدة وتحرص عليه وفقا لمبدأ النفقة / التكلفة / العائد، وهو ما ستطبقه على التعامل في سوريا وخارجها، وفي مسألة تنظيم داعش داخل الإقليم وخارجه.. وعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستتعامل الإدارة الأمريكية، وعلينا أيضا أن نرتب خياراتنا وبدائلنا العربية ليس في سوريا وإنما أيضا في التفاهمات الأمريكية التي ستطرح في إطار ما يعرف بصفقة القرن، وسائر التسويات الأخرى في المحيط العربي الذي ما زال غير مستقر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة