جولة في متحف آدم حنين.. منحوتات صامتة تتكلم
المتحف يحتوي على حديقة متحفية ومبنى يتكون من ثلاثة طوابق ارتفاعها 9 أمتار، وقد قام الفنان بتخصيصه كمتحف قومي
يبدو متحف النحات المصري العالمي آدم حنين (90 عاما) القريب من القاهرة بعيدا عنها تماما بأجوائه المختلفة، وتمتد الرحلة بالسيارة لحوالي 45 دقيقة تصل بعدها إلى قرية "الحرانية"، حيث يوجد المتحف أول الطريق المتجه إلى منطقة سقارة الأثرية.
حين اختار "حنين" القرية مقرا لبيته الريفي كان يراهن على قربها من الطريق، كما كان يراهن على طول عمر الصمت في القرية التي كانت هادئة ولا شيء ينتهك عذرية جمالها.
في حديقة المتحف الصمت يمنح المكان جلالا وجمالا يفضح القبح الذي يحاصره، وتثبت قطع النحت التي أنجزها الفنان عبر مسيرته الحافلة أن كل شيء خاضع لسلطة الأنامل الذكية، وأن الفن ابن لـ"غناء الأصابع" في حوارها مع الخامة العصية على التشكيل.
اشترى حنين، الذي يقضي شيخوخة هادئة وسط تماثيله وعمال متحفه، قطعة الأرض عام 1967 بثمن تمثال باعه لمؤسسة الأهرام، ليزين مدخل مبناها القديم، وكانت مساحة الأرض تقارب ألفي متر، خصص منها نحو 700 متر مربع لبناء متحف لعرض أعماله بطريقة فريدة وتنسيق جمالي.
يحتوي المتحف على حديقة متحفية ومبنى يتكون من ثلاثة طوابق ارتفاعها 9 أمتار، وقد قام الفنان بتخصيصه كمتحف قومي.
ولد الفنان في القاهرة عام 1929 وحظي بشهرة عالمية كواحد من أبرز النحاتين في العالم العربي.
درس في مرسم أنطوني هيل في ميونيخ عام 1957 بعد أن أنهى دراسة حرة للفنون على يد المصور الرائد أحمد صبري، ثم عاش كفنان محترف منذ عام 1971 وكان ضمن طليعة أدبية وفنية تمثل جيل الستينيات.
غامر رفاق جيله بمجموعة تصميمات ورسوم صحفية تراجعت تماما في الربع قرن الأخير (من أبرز أعماله رسومه التي صاحبت أعمال الشاعر صلاح جاهين في طبعاتها الأولى خاصة سلسلة أشعار الرباعيات)، وبسبب السنوات التي عاشها في باريس دارسا ثم فنانا محترفا ابتعد فيها عن صخب الحياة اليومية في مصر، أعطى لتجربته فرصة الحوار مع تجارب عالمية والانفتاح عليها.
كان طموحه واضحا منذ بداياته لبلوغ هذه المكانة، حيث ارتبط بفلسفة عمل جعلت من أعماله مسيرة باتجاه النور والوصول إلى النحت الصافي وما يسميه بـ"الحقيقة العارية".
في البداية أظهر شغفا بالنحت المعدني خاصة باستخدام البرونز والنحاس، وقدم في هذه المرحلة عمله الفريد "تمثال المحارب، حاملة القدور" الموجود في حديقة النحت الدولية في تكساس "العطش/رأس صلاح جاهين/الرجل والسمكة"، وفي تجاربه الجديدة عاش شغفا مختلفا بالعمل على خامات أخرى هي الجرانيت، وأخيرا خامات "الجبس" أو الجص.
سعى حنين عبر التعامل مع خامات الجرانيت إلى استدعاء خبرات النحاتين في عصر الفراعنة، وغير التعامل مع بعض الخامات التي يستخدمها الفنانون الفطريون.
وفي مسعاه الأخير اكتشف خامة "الجص" واعتقد معها أنه بلغ "نقطة النور"، لأنها بحسب تعبيره "محايدة وزاهدة ومتأنقة وغنية، تتيح للفنان أن يرى فيها الحوار مع النور، فالنور عندما يسقط على مادة محايدة يكتسب فرادة ويعمل من دون منافس ومعه تتخلص الكتلة أو التمثال من الزوائد والمحسنات".
ويضيف: "الجص مادة تضيف من جمالها الخاص إلى جمال التشكيل، كالأحجار القيمة والمعادن النفيسة والأخشاب المنوعة التي تستكين لاستقبال النور لتعكسه في عيوننا على حقيقته البعيدة عن أي مغريات ومحسنات".
لا ينظر حنين إلى أعماله باعتبارها تشمل مراحل مختلفة كما يشير النقاد، ويراها "تجربة واحدة لها مسارات متعددة، وكل عمل مع خام هو ابن حوار، والخامة تعطيك ما لديها لو نجحت في أن تنصت لها وتسمع ما تقوله وأنا أفعل ذلك باستمتاع وكل تجربة هي بداية".
في الخمسينيات كان لدى آدم حنين العديد من الرسوم التصويرية التي تكشف عن خطوط وألوان متميزة، يمكن أن تجد لها أثرا في مجموعة الوجوه التي يعرضها بمتحفه الخاص، أو مجموعة الاسكتشات التي تكشف عن مرونة الخط وذهابه نحو التجريد في وقت مبكر.
في عام 1971 سافر آدم إلى باريس "ليتعلم كل شيء عن الفن"، ويشارك في معرض للفن المصري المعاصر في متحف جاليريا، إلا أن إقامته في العاصمة الفرنسية امتدت 25 عاما حتى عام 1996.
كانت باريس، هي المدرسة التي تعلم الفنون في الهواء الطلق، وهناك رسم الاسكتشات التي عكست قلقه الروحي وشغفه بما عاشه، كان فكرا مخلوطا بالواقع يستدعى من أرشيف الذاكرة الكثير: "لكي لا تضيع هذه الشحنات العاطفية التي احتاجها للعمل".
وبفضل العيش في الغرب يبدو آدم حنين أكثر النحاتين المصريين انفتاحا على تجارب النحت العالمي وما فيها من نزوع تجريدي، لكنه أيضا أضفى على هذا المسعى سمة تتعلق بهويته المصرية التي كانت حاضرة في الخامات التي غامر معها خاصة الجرانيت والنحاس والبرونز، وهي ذات الخامات التي طوعها المصري القديم، لكن حنين يؤكد أن العيش في أوروبا أكسبه إلى جانب الخبرة التقنية سمة المعاصرة.
لم ينسحق آدم أمام النحت الفرعوني؛ حتى لا يصبح كل ما يقدمه مجرد نسخ وتقليد، ومن ثم وجد الحل في الاتجاه إلى التبسيط والاختزال بحثا عن الخلاصة.
وحين طلب منه فاروق حسني، وزير الثقافة المصري الأسبق، أن يشارك بخبراته في ترميم تمثال أبوالهول جاء إلى مصر من جديد واستعاد "الضوء".
وقال: "اكتشفت كيف لم أنتبه إلى جمال الحرانية، ولماذا أضغط نفسي في شتاء باريس ولدي شمس القاهرة".
كان إغراء البقاء في القاهرة قويا لأنه جاء مصحوبا بحلم آخر هو تأسيس سمبوزيوم النحت، حيث عاونه مهندس الديكور السينمائي الشهير صلاح مرعي، وكان الهدف إيجاد جيل جديد من النحاتين، واليوم قارب عمر السمبوزيوم نحو ربع قرن، لكن أحلام حنين لا تتوقف، فقد أطلق قبل 5 سنوات جائزة تحمل اسمه تقدم لشباب النحاتين في مصر والعالم العربي، الأقل من 35 عاما.
وتأتي الجائزة تتويجا لخطوات ومبادرات مهمة قام آدم باتخاذها في السنوات الماضية، فقد شرع في تأسيس مؤسسة آدم حنين للفن التشكيلي عام 2007، للحفاظ على التراث، ولا يزال يتأمل الكائنات النحتية التي أوجدها ويتحدث معها في سماء بلا حدود.