النورس "جوناثان".. التحليق لتعلم المحبة

ترجمة عربية جديدة لرواية "النورس جوناثان ليفنجستون" إحدى أشهر الروايات التي توجت لسنوات طويلة على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في العالم
ستجوب آلاف الأميال، وتطير عبر السماوات، وتقطع أراضٍ شاسعة وكواكب، ولن تشعر بالوقت الذي مرّ، كل ذلك سيكون في غضون ما تنفقه من وقت لقراءة 100 صفحة فقط؛ هي عدد صفحات رواية "النورس جوناثان ليفنجستون"، إحدى أشهر الروايات التي توجت لسنوات طويلة على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في العالم.
والتي قامت دار "الكرمة للنشر والتوزيع"، أخيرا، بطرح ترجمة جديدة لهذه الرواية الشهيرة أنجزها المترجم المصري محمد عبد النبي الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة.
قدمت الدار للرواية باعتبارها "حكاية الذين يتبعون قلوبهم، ويصنعون قوانينهم الخاصة؛ الذين يستمتعون بعمل الأشياء بدقة وأمانة، حتى لو كانت لأنفسهم فقط؛ الذين يعرفون أن في هذه الحياة ما هو أغلى مما تراه أعيننا، هؤلاء يطيرون مع "جوناثان" أعلى وأسرع وأبعد مما كانوا يحلمون، قصة "جوناثان ليفنجستون" هي قصة من يتغلَّب على حدود طبيعته، وعلى مجتمعه، ليصل إلى المراتب العليا من المعرفة، وليعود بها إلى مجتمعه فينشر ما عرفه".
مؤلف الرواية، الأمريكي ريتشارد باخ، يستهل روايته بإهداء إلى "النورس جوناثان الحقيقي الذي يحيا بداخلنا جميعا"، وجعل من "نورسه" الروائي إهداء لكل من ضاق بحدود السرب وأراد التحليق عاليا وراء حلمه.
تدور الرواية حول النورس "جوناثان" الذي وجد نفسه محاصرا داخل سجن سربه الكبير، وهي النوارس التي كانت تطير فقط من أجل التكالب على الطعام وليس لاكتشاف آفاق السماء والاستمتاع بالأمد، دفعه تمرده على واقعه إلى تخطي حاجز النمط العام الذي كتبته نوارس عصره على نفسها، مرّن نفسه على الطيران لمسافات أبعد من تلك القريبة من البحر حيث فتات الخبز وبقايا الأسماك حول مرافئ الشاطئ ومراكب الصيد.
كان يتدرب على سرعات أعلى في الطيران وكان يتعثر وكثيرا ما كان يحبط "لا حيلة لي في الأمر، ما أنا إلا نورس محدود بأوامر الطبيعة، لو كان مكتوبا لي أن أتعلم الكثير والكثير عن الطيران، لوجدت خرائط ومخططات مرسومة في دماغي، لو كان مكتوبا لي أن أحلق بسرعة بالغة، لولدت بأجنحة قصيرة كأجنحة القصور، ولكنت أقتات على الفئران لا الأسماك، كان أبي على حق، لا بد أن أنسى هذه الحماقة، ولا بد أن أطير عائدا إلى البيت، فأنضم إلى السرب وأرضى بما كتب لي أن أكونه، مثل أي نورس مسكين محدود".
هكذا، كان يحاصره الشك كثيرا وهو على الشاطئ، شك لا يبدده سوى يقين بأن قدراته ستتضاعف يوما بعزمه في أن يكون مختلفا وفريدا، وليس نورسا عاديا، وهو ما حدث فعلا وبدأ بالتدريج من التحرر من إحباطاته المتكررة ويسجل أرقاما قياسية في السرعة والارتفاع، ينظر للنوارس من أعلى وهي تتكالب على فتات الخبز في وقت كان هو يحتفل بحريته.
يمر "جوناثان" على مدار الرواية بمراحل متعددة أبرزها تعرفه على النورس الحكيم "تشيانج" الذي التقاه في سماء سحيقة، وكان أبا روحيا لجوناثان في رحلته التساؤلية حول ماهية المكان والزمان، والكمال، والمحبة. يحدثه النورس العجوز بقوله "يمكنك أن تذهب إلى أي مكان وإلى أي زمان تتمنى الذهاب إليه، لقد ذهبت إلى كل موضع وكل زمن أستطيع التفكير فيه". تعلم "جوناثان" من "تشيانج" الكثير، وكانت كلماته الأخيرة له قبل أن يرحل هي: "يا جوناثان واصل تعلم المحبة".
تطورت مهارات جوناثان في الطيران، ومعها تطورت نظرته لأهمية الحياة وبذلها من أجل آخر ربما يبحث عن فرصة كالتي مُنحت له بلقاء "تشاينج".
"وقف على الرمل وراح يتساءل إن كان يوجد على الأرض الآن نورس آخر يكافح لكي يتخطى حدوده الضيقة، لكي يدرك معنى الطيران بعيدا عن مجرد الانتقال سعيا وراء فتات الخبز من قوارب الصيد، لعل هناك نورسا الآن صار منبوذا لأنه أعلن حقيقته الخاصة في مواجهة السرب. وهكذا كلما كان "جوناثان" يعمل على دروس الرأفة، وكلما كان يجتهد لإدراك طبيعة المحبة، زادت رغبته في الرجوع إلى الأرض".
تملكت تلك الفكرة من النورس "جوناثان" الذي يقول عنه مؤلفه وصانع عالمه: "فعلى الرغم من عيشه وحيدا فيما مضى، فقد كان النورس جوناثان مخلوقا لكي يكون معلما ومرشدا، وكان سبيله الوحيد لإثبات محبته هو أن يمنح شيئا من الحقيقة التي اطلع عليها، يمنحها لنور ما، نورس لا يريد إلا فرصة لكي يطلع على الحقيقة بنفسه ويراها بعينه".
وعلى مدار الجزء الثالث من الرواية، نستمع إلى أمسيات جوناثان لتلاميذه على الشاطئ، ونشاهد تمارينهم "البهلوانية" التي يدفعهم لها دفعا للتحرر من سطوة الأرض وركودها، وإلهامهم للارتفاع إلى أعلى عبر السماوات، يقول لأحد تلاميذه "إننا أحرار في الذهاب إلى حيث نشاء، وأن نكون ما نريد أن نكون".
بعد أن تلاشى النورس "جوناثان" من شواطئ السرب، راح تلاميذه يبشرون بتعاليمه حول "الحرية" و"الطيران"، وتحول جوناثان إلى "أيقونة" تحيط به هالات من العظمة تتداول أجيال النوارس الجديدة سيرته بأسطورية، ويحيلك الكاتب ريشارد باخ لورطة في فصل الرواية الأخير الذي يتبارى خلاله أجيال النوارس الجديدة على اختراع الطقوس والأناشيد المخلدة لذكرى جوناثان باعتباره نورسا سماويا مقدسا، وفي الوقت نفسه يهجرون رسالته التي بذل حياته من أجلها، فيعودوا سيرتهم الأولى كما آباؤهم الأوائل، ويبتعدون عن الطيران في ممارساتهم اليومية باعتباره معجزة خاصة بـ"جوناثان" وغير قابلة للتقليد .
الإشكاليات التي طرحها باخ عبر شخصيته الرئيسية "جوناثان" تتصاعد حتى انتهاء الرواية التي تندهش من تكدسها بالتساؤلات والتحديات الإنسانية والروحانية رغم صفحاتها المائة من القطع الصغير.