جماعة «الإخوان» هي الحاضنة تاريخيا لكل الفصائل المتحدرة من جذرها، من دعاة إلى مسالمين إلى إرهابيين
تساءلتُ وأنا أخطط لكتابة هذا المقال: ترى ما الفائدة العامة التي يمكن أن تُجنى من مناقشة رأي لشخص واحد، قيل ربما تحت حماس الساعة في غرفة مغلقة؟! خطورته أنه قيل نيابة عن حركة الإسلام السياسي ذات الجذر الواحد والرؤوس المتعددة، من إيران إلى تركيا إلى السودان إلى تونس، إلى أماكن أخرى في الفضاء السياسي العربي. وجدت أن الأمر يحتاج إلى وقفة؛ لأنه أمر عام، وفي رأيي خطير، ليس من منظور الفعل الذي دمر مجتمعات بأسرها، ولكن من منظور الفكر أيضاً، وربما هو الأهم، تلك الأفكار تستولي على عقول كثيرة من عقول الشباب وتضللهم، أشير إلى ما أذاعه تلفزيون «العربية» الأسبوع الماضي، وأصبح اليوم متاحاً على «يوتيوب» تحت عنوان «أجندة الفوضى»، والقائل هو السيد طارق سويدان من الكويت، الذي يقدّمُ نفسه كداعية من جهة ومدرب من جهة أخرى، ومبشر بالمشروع «الإخواني» من جهة ثالثة. قال إن فرع حركة «الإخوان» في الكويت استطاع أن يحقق هذا وذاك من النجاح السياسي! وإن الحركة في السودان (التي يتوجه إلى أعضائها بالقول) يمكن أن تحقق هذا الهدف وذاك، بسبب مخزونها من الكوادر! إلى آخر ما قال في ذلك الشريط! المفارقة أنه لولا سقوط حكم الحركة في السودان لما كان لنا -كمتابعين- الحصول على ذلك الشريط الذي تُرك مع ثروة من المعلومات لأجندة الحركة، عندما فقدت قدرتها على البقاء وتشتت جمعها في السودان.
تضارب وتناقض أفكار "الدعاة" التي تظهر لنا تباعاً اليوم، والذين برزوا في العقود الأخيرة، خير دليل على الاستخدام السلبي لما سموه الفكر الإسلامي، لم تكن المشكلة قاصرة على أنهم ضلوا، ولكن الأفدح أنهم ضللوا!
خطورة القول إن السيد طارق يتحدث كونه واحداً من جماعة «الإخوان» في الكويت، ويمكن أن يكون ذلك ادعاءً، كادعائه وقف مساعدات حكومية لمصر، دغدغةً لمشاعر مستمعيه وقتها! أو ادعائه في أشرطته المتاحة فهم الإسلام! ذلك الاعتراف بالانتماء لم تصدر الحركة حوله رأياً أو نفياً، ما يؤكد انتماؤه للحركة والحديث باسمها. من هذه الزاوية تأتي أهمية الرصد. حكومة «الإنقاذ» في السودان التي احتضنت ذلك المؤتمر السري سقطت، وتتساوى الأسباب التي عملت على سقوطها مع الأسباب القائمة التي تواجه «النهضة» الذراع الأخرى من الحركة السياسية الإسلامية في تونس، أو المشكلات التي يواجهها نظام أنقرة في السير بعيداً عن الواقع، والانجراف إلى الأدلجة، مع كل ما يتبعها من بروز الدولة الشمولية. أما الفشل القائم في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية فلا يحتاج إلى دلائل مهما كابر تابعوه. أما صراع المليشيات في ليبيا باسم الإسلام السياسي فإنه يأخذ ليبيا سريعاً إلى التفكك! تلك حصيلة مشروع الإسلام السياسي في فضائنا الشرق أوسطي وعلى الأرض، وهي حصيلة ليس فيها أي ذبالة تدل على نجاح، كونها فاقدة للمشروع الحداثي، ومنقسة فكرياً، ومتنازعة عملياً، كل فريق منها يدعي وصلاً بالإسلام، وجميعها مختالة فكرياً بأنها تملك وحدها الحقيقة المطلقة.
القصة الأهم والأكبر والأكثر إلحاحاً أنها تحمل طاقة مستندة إلى دين الأمة، فيصر كل فريق منها على أن تتعاطى بالسياسة من زاوية «فهمها الضيق للإسلام» وعند مناقشة قيادتها، وعرض مسيرة الفشل القائم أمام الأبصار، يأتي الرد: «إنهم لم يمكنونا من الحكم»! والإشارة في الغالب إلى «مقاومة» الأوروبيين والأمريكيين وغيرهم من القوى! دون استعداد لعرض مقولاتهم السياسية على ساحة العقل والنقد والمراجعة والتبصر. منهجهم في ذلك تضييق ما اتسع، واستحواذ لما هو عام (الإسلام) إلى ما هو خاص بـ«الجماعة»، أكانت في الكويت أو تونس أو إيران أو لبنان، أو غيرها من البلدان! المنهج المكمل أنهم يتمتعون بطاقة، على الأقل في أوساطهم، دائبة على نفي من يخالفهم على أنه «خارجي»، ليس فقط مخالفاً في السياسة، ولكنه مخالف في الدين!
جماعة «الإخوان» هي الحاضنة تاريخياً لكل الفصائل المتحدرة من جذرها، من دعاة إلى مسالمين وإلى إرهابيين، حسب الظروف والإمكانيات، هم الناقلون الجدد (من مدرسة النقل) وجدد؛ لأن نقلهم لا يتعدى أدبيات مائة عام مضت مع كتابات السيد حسن البنا، ومن جاء بعده من مُنظِّري الطوائف، معتمدين على الانتقاء من سيولة المرويات التاريخية التي تزدحم بها كتب الأولين، والتي بعضها متناقض ومعارض حتى للعقل السليم. يمارسون السياسة عن طريق الاستقطاب الديني العاطفي، في بحر من المؤمنين تعاطوا تثقيفاً دينياً انتقائياً وطويل الأمد (في الخليج مُكِّنت طلائعهم -ربما عن حسن نية- من الاستيلاء على المنظومة التعليمية الوليدة التي لا يزال بعضها في الأغلب تحت جناحهم الفكري)، بحر المؤمنين هذا سهل التجنيد والحشد للفرق السياسية المختلفة التي تتخذ من الدين شعاراً سياسياً، وبمقولات مبسطة وبقيادات محدودة الكفاءة.
أفضل ما تذهب إليه حركة «الإخوان» في الارتكان الفكري هو كتابات حسن البنا، وبعده سيد قطب، ومن جاورهما في التنظير للحركة الأم أو إفرازاتها، وهي كتابات تبسيطية وانتقائية في الوقت نفسه، تفتقر اطلاع أصحابها على المنهج العقلي الذي تركه السلف في وقت صعود الفكر الإسلامي، وهو تراث كثير وعميق وغني. الفكرة الأساسية للحركة هي تبني فكرة «الانقلاب» سبيلاً لبناء إمبراطورية، إما عثمانية في مكان وإما (قورشية) في مكان آخر، كما تقول الأدبيات الإيرانية من السند إلى غزة!
الانقلابية جذبت الجماعة الدينية الإيرانية مبكراً، فترجم علي خامنئي عدداً من كتب سيد قطب، وعلى رأسها كتاب «المستقبل لهذا الدين» للاسترشاد الانقلابي بها!
الإسلام السياسي المعاصر بألوانه المختلفة، لديه ما يشتكي منه، ولكن ليست لديه القدرة أو المنهج لبناء البديل، لذلك كلما بدأ في مكان بناء سلطة تتعثر وتسقط، حتى لو استخدم كل ما تتيحه السلطة من إرهاب وترغيب.
تواضع الحصيلة المعرفية والتاريخية للمؤسسين أوصل التابعين في حركات الإسلام السياسي، بكل فروعها، إلى مأزق معرفي لا يستطيعون الفكاك منه. لقد سجنوا أنفسهم في بنية ثقافية ماضوية وانتقائية، وانتهوا بتنافس في داخل الحركات وبينها على قاعدة الاستخدام الأيديولوجي للدين، بل زاد عن ذلك في بعض بيئتهم -كما في البيئة الخليجية- أن أدمجوا العادات والموروث الاجتماعي على أنه من صلب الدين، وفي الوقت نفسه أسبغوا على المخالفين تسميات عدائية واحتقارية تحط من قيمتهم!
لم تظهر في أجندتهم أي أفكار تنموية لها علاقة بالدولة الوطنية، فهم أمميون، لم يتبنوا خططاً لاستئصال الفقر أو رفع مستوى معيشة المواطنين أو مخاصمة الفساد. عدا الإيمان بالمساواة والشراكة في المواطنة، كلها مفردات ارتهن حلها إلى الغيب عندهم، وتراجعت ممارساتها إلى ما قبل العقد الاجتماعي الحديث الذي أخذت به شعوب ومجتمعات العالم، بما فيها مجتمعات إسلامية على قاعدة الدولة الوطنية الحديثة.
محصلة ما سمعناه من الأشرطة التي تركتها حركة «الإنقاذ» السودانية، ومن استضافتهم في المؤتمرات الحزبية المغلقة، الخلط الجاهل بين الإسلام كدين من جهة وبين اجتهاد بعض المسلمين الشاذ في السياسة على أنه «الإسلام» من جهة أخرى، ذلك الخلط الذي سبب كل تلك الضجة العالمية السلبية فيما عرف بـ«الإسلاموفوبيا»، والتي هي نتاج مباشر للخلطة الفكرية المسمومة لتلك المجاميع السياسية ذات البعد الواحد والساذج، معتبرين أفكارهم المحدودة هي تعاليم الإسلام الحضارية، ودون مواجهة تلك الخلطة تفسيراً ونقداً سوف يبقى بعض المسلمين - وليس الإسلام - خارج المسار الحضاري، ومكاناً للتصويب السلبي من أكثر من مكان.
آخر الكلام:
تضارب وتناقض أفكار «الدعاة» التي تظهر لنا تباعاً اليوم، والذين برزوا في العقود الأخيرة، خير دليل على الاستخدام السلبي لما سموه الفكر الإسلامي. لم تكن المشكلة قاصرة على أنهم ضلوا، ولكن الأفدح أنهم ضللوا!
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة