«أوشريا».. سرّ الصول النوبي الذي جعل اللغة المصرية القديمة شفرة حرب أكتوبر

في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، كانت المعركة تدور على جبهات القتال، لكن أحد أسرار الانتصار كان في جبهة أخرى لا تقل أهمية: جبهة الاتصالات.
وسط سباق محموم بين أجهزة التنصت والتشفير، خرج من قلب النوبة جندي بسيط اسمه أحمد محمد أحمد إدريس، من قوات حرس الحدود، بفكرة قلبت موازين الحرب: تحويل اللغة النوبية إلى شفرة عسكرية لا تُخترق.
كانت القيادة المصرية تواجه معضلة كبيرة آنذاك، إذ تمكّن العدو من فك بعض الشفرات اللاسلكية. أمر الرئيس أنور السادات بإيجاد وسيلة تضمن السرية المطلقة في الاتصالات، فخطر لإدريس أن اللغة النوبية يمكن أن تكون الحل، فهي تُنطق ولا تُكتب، ولا توجد مراجع لغوية يمكن الرجوع إليها، ما يجعلها عصية على الفهم أو الترجمة.
رفع إدريس فكرته إلى قادته في سلاح الإشارة، ومنها وصلت إلى مكتب رئيس الأركان، ثم إلى السادات نفسه. ويروي إدريس في الفيلم الوثائقي «الشفرة» الذي أنتجته القوات المسلحة، أنه فوجئ ذات يوم بجنود يقتادونه مقيدًا بالأصفاد إلى مكان مجهول، حتى وجد نفسه في قصر الاتحادية أمام رئيس الجمهورية. يقول إدريس: «حين دخل السادات المكتب، ارتجفت. اقترب مني ووضع يده على كتفي وقال مبتسمًا: فكرتك ممتازة، لكن كيف ننفذها؟ فأجبته بأننا نحتاج إلى مجندين من النوبة القديمة يتحدثون اللغة الأصيلة غير الممزوجة بالعربية».
أعجب السادات بالفكرة، وأصدر أوامره بتنفيذها على الفور. جرى انتقاء 344 جنديًا نوبيًا من قوات حرس الحدود، وزعوا على الوحدات العسكرية لتبادل الرسائل والإشارات المشفرة. بدأ تنفيذ الخطة عام 1971، واستمرت سرية اللغة النوبية في الاتصالات حتى نهاية حرب أكتوبر/تشرين الأول، وظلت مستخدمة داخل بعض المراسلات العسكرية حتى عام 1994.
ومن أشهر المفردات التي استخدمت آنذاك كلمة «أوشريا» وتعني بالعربية اضرب، و*«ساع آوي»* أي الساعة الثانية، وهما الكلمتان اللتان أعطتا إشارة بدء الهجوم المصري في معركة العبور. كذلك كانت كلمة «ألوم» تعني التمساح وتشير إلى الدبابة، و*«زندنابي»* تعني الناموسة في إشارة إلى الطائرة.
يقول الدكتور خالد منيب، الباحث في اللغات القديمة، إن عبقرية الفكرة لم تكن فقط في اختيار لغة مجهولة بالنسبة للعدو، بل في توظيفها بشكل منظم داخل شبكة الاتصالات العسكرية. ويضيف: «اللغة النوبية القديمة تمتلك نظامًا صوتيًا معقدًا لا يمكن لأي جهاز فك شفرات تحليله بسهولة، كما أنها بلا قواعد كتابة، مما جعل الرسائل المنطوقة مستحيلة الفهم على أي طرف خارجي».
أما الدكتور طارق الميرغني، أستاذ التاريخ العسكري، فيوضح أن تلك الخطوة كانت جزءًا من منظومة الخداع التي أبهرت الاستخبارات الإسرائيلية. ويقول: «اعتماد الجيش المصري على اللغة النوبية أوجد ارتباكًا هائلًا لدى مراكز التنصت الإسرائيلية، لأنها لم تتعامل من قبل مع لغة لا مرجع لها، فكان التواصل بين الوحدات المصرية آمنًا تمامًا طوال فترات القتال».
ويضيف الميرغني أن الشفرة النوبية لم تكن مجرد وسيلة اتصال، بل رمزًا لوحدة المصريين وتنوعهم الثقافي الذي تحوّل إلى قوة حقيقية في الميدان.
ظل الصول أحمد إدريس محتفظًا بسر فكرته لسنوات طويلة تنفيذًا لأوامر الرئيس السادات، الذي هدده بالإعدام إن أفشى هذا السر قبل أوانه. وبعد عقود، رُفع الغطاء عن القصة لتُروى للأجيال الجديدة بوصفها نموذجًا فريدًا على أن الذكاء والفكر أحيانًا يوازيان في تأثيرهما دويّ المدافع.
اليوم، يبقى اسم أحمد إدريس محفورًا في ذاكرة الوطن كصاحب فكرة جعلت من اللغة سلاحًا ومن التراث درعًا في واحدة من أعظم معارك مصر الحديثة.