بـ 1.5 جنيه والتوصيل في 6 ساعات.. «البيجامة الكستور» التي تحكي نصر أكتوبر (خاص)

في مدينة تنبض بتاريخ الصناعة المصرية، خرجت قطعة قماش بسيطة لتصبح رمزًا يتجاوز حدود الموضة والزمن.
صارت “البيجامة الكستور” التي حيكت بخيوط القطن المصري في مصانع المحلة الكبرى خلال سبعينيات القرن الماضي، شاهدًا على لحظة فارقة من تاريخ الوطن، حين ارتداها الأسرى الإسرائيليون بعد هزيمتهم في حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973.
في تلك الأيام التي أعادت فيها مصر كرامتها، لم تكن البيجامة الكستور مجرد لباس، بل علامة انتصار واعتزاز بالصناعة الوطنية. من داخل مصانع شركة مصر للغزل والنسيج، خرجت آلاف القطع التي حملت توقيع المهارة المصرية، مصنوعة من القطن طويل التيلة، بنعومته المتفردة ومتانته التي لا تخطئها عين.
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على تلك اللحظة، ما زالت البيجامة الكستور تحتفظ بمكانتها في ذاكرة المصريين.
في جولة داخل شوارع المحلة الكبرى، يمكن للزائر أن يرى بعض المحال الصغيرة ما زالت تعرضها في الواجهات، وكأنها تذكّر المارة بزمن كانت فيه الأقمشة حكايات وطنية تُروى بخيوط القطن.
يقول عمرو البدري، مدرس تاريخ في الخمسين من عمره: “البيجامة الكستور مش مجرد لبس، دي ذكرى. وأنا صغير، كنت بشوفها في بيت أبي، وكان دايمًا يقول إن اللي لبسوها رجالة صنعت النصر. دلوقتي لما بشوفها في المحلات، بحس إن البلد دي لسه فيها حاجة بتفضل جميلة رغم الزمن.”
أما منى عزت، صاحبة ورشة صغيرة لتفصيل الملابس النسائية، فتضحك وهي تتذكر بداياتها في المهنة: “أنا اتعلمت الخياطة من أمي، وكانت بتحتفظ بقطعة من بيجامة كستور قديمة كأنها تحفة. كنت دايمًا أسألها ليه مش تبيعها، وكانت تقول لي: دي من أيام النصر، فيها بركة.”
وفي أحد المقاهي القديمة بجوار شركة الغزل، جلس سامي الشرقاوي، فني ميكانيكا سابق بالشركة، يحتسي الشاي ويتحدث بحنين: “كنت بشتغل في الصيانة أيام الثمانينات، بعد الحرب بسنين، والمصنع كان لسه في عزّه. كانت خطوط الإنتاج شغالة ليل نهار. البيجامة دي كانت تطلع من المصنع وراها قصة تعب وحب كبير. مش سهل تشتغل في حاجة وتبقى رمز بلدك.”
يتذكر سامي أن المصنع كان يضم آلاف العمال والمهندسين، وأن الأجواء كانت عائلية إلى حد كبير، يقول مبتسمًا: “كنا نشتغل ونتغدى سوا، وكان في شعور بالانتماء مش بيتكرر دلوقتي. لما تشوف الأسير الإسرائيلي لابس حاجة صنعتها بإيدك، بتحس إنك كنت جزء من المعركة، حتى لو ما مسكتش سلاح.”
في محل آخر وسط المدينة، تحدثنا إلى ليلى أبو النجا، شابة في الثلاثين تدير متجرًا للملابس القطنية الحديثة، قالت وهي تشير إلى رف قديم يحتفظ ببيجامة كستور : “الناس بتيجي تسأل عنها كتير، خصوصًا اللي بيحبوا الحاجات التراثية. في شباب صغير أول مرة يعرف إن دي اتعملت هنا في المحلة، وبيبقوا مبهورين إن منتج بسيط كان ليه حضور في لحظة عظيمة من تاريخنا.”
أما مصطفى الديب، أحد مصممي الأزياء الشباب بالمحلة، فيحاول إعادة تقديم البيجامة بروح عصرية، يقول: “الفكرة إننا نحافظ على خامة القطن المصري وجودة الحياكة، لكن نصممها بطريقة تناسب الجيل الجديد. الهدف مش مجرد لبس، لكن نرجّع ثقة الناس في الصناعة المحلية تاني.”
وبينما يقف برج الساعة الشهير في شركة مصر للغزل والنسيج شامخًا بارتفاع 103 أمتار، يواصل الزمن دورانه، وتواصل المحلة تخليد اسمها في كل خيط من القطن المصري. هذا البرج الذي بُني في ثلاثينيات القرن الماضي على يد مهندسين إنجليز، أصبح اليوم أحد رموز المدينة، تدق ساعته كل ساعة لتذكر العمال بأن التاريخ ما زال يدقّ في قلب الصناعة المصرية.
تُعد شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى من أقدم وأضخم القلاع الصناعية في الشرق الأوسط، إذ تأسست عام 1927 على مساحة تجاوزت 600 فدان، وضمت عند إنشائها نحو 30 ألف عامل. كانت الفكرة وراء تأسيسها أن تُصبح القلب النابض لصناعة القطن المصري، وتحول الخامة المحلية إلى منتج ينافس الأسواق العالمية.
في السبعينيات، كانت خطوط الإنتاج تضم أحدث ماكينات الغزل آنذاك، واعتمد المصنع في صناعة الكستور على خيوط القطن طويل التيلة التي تُغزل بخيوط دقيقة، ثم تُكبس بالبخار وتُعالج بدرجات حرارة معينة لتكتسب ملمسًا ناعمًا وتهوية مثالية للجسم. تلك التقنية جعلت القماش خفيفًا، مريحًا في اللبس، ومناسبًا لكل الفصول.
تميّزت البيجامة الكستور بأنها تجمع بين البساطة والمتانة، وتُخاط عادة من قماش خفيف لكنه محكم النسيج، ما يجعلها “تتنفس” بسهولة وتمنح إحساسًا بالراحة حتى في الأجواء الحارة. ولذلك، كانت مثالية لاستخدامها كزي للأسرى، وفي الوقت نفسه محبوبة داخل البيوت المصرية التي اعتادت ارتداءها للنوم أو الجلوس المنزلي.
كانت خطوط الإنتاج في مصنع غزل المحلة تعمل على مدار الساعة، بنظام ثلاث ورديات متعاقبة، من السابعة صباحًا وحتى الرابعة والنصف فجرًا، دون توقف إلا للصيانة أو في حالات الطوارئ.
يوميًا، كانت تُنتج حوالي خمسة آلاف بيجامة من هذا النوع، يشتريها الجميع من مختلف الأعمار، لكونها قطعة ملابس تُعرف بمتانتها وملاءمتها لكل الفصول.
ورغم ظهور أنماط جديدة من الملابس بعد عصر الانفتاح الاقتصادي، ما زالت البيجامة الكستور تحتفظ بمكانتها الخاصة لدى محبي الأصالة والجودة.
بلغ سعر البيجامة في تلك الأيام نحو جنيه ونصف الجنيه، وهو مبلغ كبير نسبيًا آنذاك، لكنها كانت تستحق هذا السعر لأنها "تعيش العمر"، كما يقول العاملون القدامى بالشركة.
بمرور الوقت، أصبحت الكستور عنوانًا للجودة المصرية، وانتشرت صادراته إلى دول عربية وأوروبية، واستمر المصنع في إنتاجه حتى منتصف التسعينيات قبل أن تتراجع الصناعة المحلية أمام المنافسة الأجنبية. ومع ذلك، بقيت “البيجامة الكستور” شاهدًا على زمن كانت فيه كلمة “صُنع في مصر” تحمل وزنها الحقيقي في الأسواق.
وفي كل عام، تُبرز شركة غزل المحلة صور البيجامات الكستور عبر صفحاتها الرسمية، مصحوبة بعبارات مستوحاة من روح أكتوبر مثل: «المصانع بقت أكبر والتوصيل في 6 ساعات»، في إشارة رمزية لعبور خط بارليف وتحقيق النصر خلال ساعات قليلة.
وهكذا، تبقى “بيجامة الكستور” رمزًا ممتدًا بين الماضي والحاضر، تحكي عن جيل صنع المجد بخيوط القطن، وآخر يسعى لإحياء نفس الروح في عالم يتغير بسرعة. قطعة قماش واحدة، لكنها تحمل في نسيجها قصة وطن لا ينسى كيف صنع النصر بخطوط من العرق والفخر.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjEg جزيرة ام اند امز