ظل النظام الطائفي في لبنان عاجزاً عن إدارة شؤون البلاد وممارسة السلطات السيادية فكانت آثاره السيئة في نهاية المطاف دماراً وتدميراً
ظل النظام الطائفي في لبنان عاجزاً عن إدارة شؤون البلاد وممارسة السلطات السيادية، فكانت آثاره السيئة في نهاية المطاف دماراً وتدميراً بكل مناحي الحياة العامة التي أدت بمجملها إلى تفرقة وتمييز، ونتيجة لتلك الانتماءات السياسية والمصالح الطائفية البغيضة والفئوية الممجوجة والمتجذرة في صميم الواقع السياسي والاجتماعي، أن ضعفت مؤسسات الدولة وما عادت تمتلك استقلالية وفاعلية من حيث الأداء في خدمة وتأمين متطلبات المواطنين، وفشلت الدولة في محاسبة المقصرين ولم تتمكن من وضع حد لهؤلاء الذين يتجاوزون إطار الدولة القانوني، أو اتخاذ موقف من مرتكبي المخالفات القانونية والمالية وبخاصة ذوو النفوذ الطائفي وهيمنة النخبة التي تتمسك بالحكم الطائفي فهم فوق القانون وما عادوا يهتمون بأمن الوطن.
كل الأمل والمبتغى ألا تذهب هذه الاحتجاجات نحو طريق آخر تنهار فيه المطالب الشعبية الحقوقية وتتحول إلى فتنة طائفية وحرب أهلية عانى منها الأشقاء اللبنانيون خلال السنوات المنصرمة الويلات والدمار.
وهكذا تفشى الفساد السياسي والاجتماعي وخضوع السياسات العامة لتأثير النخب الحاكمة حتى أصبح الأداء مزمناً يحول دون تحقيق أي هدف وطني ينقذ الأهالي من جحيم الأزمات المؤلمة والحادة، مما أدى إلى احتجاجات المواطنين ولأول مرة في تاريخ البلاد برزت انتفاضة الشعب اللبناني مطالبة باستقالة رموز الحكم بدءاً من رئاسات الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، بعيداً عن الطائفية والحزبية والزعامات التقليدية الفاسدة التي خلقت حالات متردية ما عادت تطاق، وشملت احتجاجات المواطنين سائر المدن اللبنانية وبكل طوائفها ولا تراجع إطلاقاً عما يطلبه المتظاهرون.
وترى بعض الأطراف السياسية في داخل الحكم أنْ لا استقالة للحكومة في الوقت الراهن، وتصريحات وزير الخارجية جبران باسيل مقلقة وقوبلت بالانتقادات العنيفة، معتبرة "بأن البديل عن الحكومة الحالية هو ضباب وقد يكون أسوأ بكثير، وأن الخيار الآخر هو الفوضى بالشارع وصولاً للفتنة"، وثمة تساؤلات تشير إلى أنه لو استقالت الحكومة فإنه ليس بالسهل تشكيل حكومة جديدة وربما تكون حكومة تصريف أعمال لا أكثر تمتد لشهور وسنوات، وذلك لجذور الطائفية المترسخة، ولن يكون بمقدورها تنفيذ إصلاحات لوجود مصالح شخصية حكومية، وبعد مرور ثمانية أيام من الاحتجاجات الشعبية، وبهدف التهدئة قال الرئيس اللبناني في كلمته إن "الذهنية الطائفية هي الأساس وراء كل مشاكل لبنان، مؤكداً أن لبنان يحتاج إلى تعاون جميع الأطراف في الحكومة من أجل الإصلاحات، ومشدداً على ضرورة عودة الأموال المنهوبة للشعب، وأن كل من سرق المال العام يجب أن يُحاسب، فلنكشف كل حسابات المسؤولين"، وبذلك يعترف رئيس البلاد بوجود الفساد في مفاصل الدولة وسرقة الأموال العامة.
وتوحي المؤشرات بأنه في حال جرى سيناريو تكليف حكومة تكنوقراطية بدلاً من الحكومة الحالية، فبعض الوزراء قد لا يقبل بها كونها تؤثر على شخصيات من الفئات الحاكمة التي حصلت على امتيازات ومكتسبات غير شرعية عبر السنوات الطويلة، ولو استقال عدد منها وسط إصرار المحتجين فإن ذلك قد يؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ في سائر المدن اللبنانية، ومن ثم ينزل الجيش إلى الشارع وبالتالي يتم تشكيل حكومة عسكرية لفرض الأمن والاستقرار.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد اللبناني من أزمات متفاقمة، بلغ العجز في الميزان التجاري للبلاد 65.16 مليار دولار عام 2018، مقابل 87.15 مليار دولار عام 2017 وتراجع في حجم التدفقات المالية من الخارج مع ارتفاع مطرد في حجم الدين العام الذي تجاوزت نسبته 150بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، وارتفعت معدلات البطالة وتباطأت تدفقات رأس المال إذ يعتمد لبنان منذ أمد بعيد على التحويلات المالية من المغتربين لتلبية الاحتياجات العامة، ويتميز اقتصاد الدولة بقطاع تجاري كبير باعتباره شديد الارتباط تاريخياً واجتماعياً بسوريا نظراً لعبور التجارة اللبنانية من الأراضي السورية، وبسبب المخاطر التي نجمت عن الأزمة السورية تراجعت تدفقات التجارة وتدنى هبوط الطلب في السوق السورية، رغم أن اللاجئين السوريين في لبنان يمنحون الصادرات اللبنانية من الخدمات زخماً مهماً، فمجموع الاستثمارات السورية حوالي 24 مليار دولار، تُعتبر عاملاً مهماً ساهم في الحفاظ على استقرار العملة اللبنانية، بمعزل عن التجاذبات السياسية التي حكمت البلاد على مر العقود المنصرمة، وحجم إيداعات السوريين في المصارف اللبنانية راوحت بين 15 و18 مليار دولار.
وتظهر الإحصائيات الأخيرة المعلن عنها حتى نهاية شهر مايو/أيار 2018 أن مجموع ودائع غير المقيمين في المصارف اللبنانية بلغت 36 مليار دولار، وهي تعود لمودعين من جنسيات مختلفة، ويطالب الكثير من اللبنانيين باستعادة الأموال المنهوبة من الدولة بأسرع وقت ممكن، وظاهرة الفساد وهدر المال العام أخذت منحى خطيراً خلال العقود الماضية، بحيث باتت المؤسسات الرسمية في خطر جدي من التوقف عن العمل والاستمرار بتأدية دورها.
الشعب اللبناني يطمح إلى تحقيق تحولات جذرية في الحكم والتخلي نهائياً عن النظام الطائفي البغيض ووضع إجراءات سريعة لإنقاذ الواقع اللبناني، أولاها تأسيس دستور جديد ينبثق من رغبات الشعب، وقانون انتخابي يرسخ قيم ومعاني الدولة المدنية الوطنية بكل مضامينها، وكل الأمل والمبتغى ألا تذهب هذه الاحتجاجات نحو طريق آخر تنهار المطالب الشعبية الحقوقية وتتحول إلى فتنة طائفية وحرب أهلية عانى منها الأشقاء اللبنانيون خلال السنوات المنصرمة الويلات والدمار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة