«الوحل».. درع أوروبا «غير المتوقع»

بينما كانت قوات روسيا تتقدم نحو العاصمة كييف في فبراير/شباط 2022، خاضت أوكرانيا «مقامرة يائسة»، بإحداثها ثقبًا في سد على نهر إربين شمال كييف، مما أدى إلى حدوث مستنقعات هائلة، لا يمكن عبورها.
تلك المستنقعات ساهمت في حماية المدينة بينما كانت الدبابات الروسية غارقة في «وحل كثيف»، في إجراء بعث برسالة هامة: دعوا الطبيعة تقاتل من أجلكم في الحرب. وقد انتبهت الدول الواقعة على حدود حلف الناتو لذلك.
وصرح مسؤولون بولنديون وفنلنديون لصحيفة «التلغراف» بأنهم يفكرون في استعادة المستنقعات في بلادهم لإغراق المركبات الثقيلة مثل الدبابات ومكافحة تغير المناخ في نفس الوقت.
وتغطي المستنقعات مساحات شاسعة من أراضي الاتحاد الأوروبي من القطب الشمالي الفنلندي، مروراً بدول البلطيق، وعبر فجوة سووالكي وحتى شرق بولندا.
وتعتبر المستنقعات بمثابة مخازن لثاني أكسيد الكربون لكن إذا تم تجفيفها، فإنها تطلق الكربون في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي بشكل كبير، بحسب صحيفة «التلغراف».
ولقد فقدت أوروبا نصف أراضيها «الخث» (أراض رطبة تكونت عبر آلاف السنين من تراكم النباتات الميتة وشبه المتحللة في بيئة مشبعة بالمياه) أو تحولت إلى أراضٍ زراعية، واستجابة لذلك، يعطي الاتحاد الأوروبي الأولوية لإحياء 30% من أراضي الخث المتدهورة بحلول عام 2030 لمكافحة تغير المناخ وتعزيز التنوع البيولوجي.
المستنقعات استراتيجية دفاعية
لكن فكرة استعادة المستنقعات كاستراتيجية دفاعية هي فكرة جديدة.
وفي إطار مشروع تحصين الدرع الشرقي في بولندا والذي تبلغ قيمته 1.9 مليار جنيه إسترليني، سيتم إحياء وتوسيع أراضي الخث والغابات القريبة من حدودها.
وقال متحدث باسم وزارة الدفاع البولندية إن «البيئة الطبيعية في المناطق الحدودية تشكل حليفًا واضحًا لأي إجراءات تعزز عناصر الدرع الشرقي».
وفي فنلندا، بدأت تجربة لاستعادة المستنقعات بالقرب من حدودها مع روسيا، بحسب مصادر لصحيفة «التلغراف».
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت هذه الأراضي تُشكّل حدودًا طبيعية وتُعتبر عوائق دفاعية. والآن نُدرك هذه الأهمية للأراضي الرطبة من جديد، كما يقول فيكتور كوتوفسكي، عالم بيئة الأراضي الرطبة ومستشار الحكومة البولندية في مجال الحفاظ عليها.
وأوضح أن هذه التضاريس الوعرة والمشبعة بالمياه «لا يمكن عبورها بالمركبات الثقيلة». وقد تجلى ذلك هذا العام، عندما قُتل أربعة جنود أمريكيين متمركزين في ليتوانيا خلال مناورة تدريبية عندما قادوا مركبة مدرعة وزنها 63 طنًا إلى مستنقع.
ويرى دعاة حماية البيئة والسياسيون ومسؤولو الدفاع بشكل متزايد الفرصة التي تنشأ عندما تتقاطع سياسات حماية البيئة مع الاستراتيجيات الدفاعية.
وكان باولي آلتو سيتالا، عضو البرلمان عن حزب الائتلاف الوطني الحاكم في فنلندا وضابط الدبابات السابق، أول سياسي يدعو الحكومة إلى استعادة الأراضي الرطبة التي تغطي حدودها الشرقية كاستراتيجية مزدوجة للمناخ والدفاع في العام الماضي.
وقال ألتو سيتالا لصحيفة «التلغراف»: «لا يوجد الكثير من الأشياء التي يتفق عليها النشطاء البيئيون ومسؤولو الدفاع، وهنا نجد أرضية مشتركة كبيرة».
وتُشكّل الأراضي المستنقعية حوالي ثلث مساحة فنلندا، وقد جُفِّف نصفها بالفعل. لكن البلاد تُنفِّذ حملة ترميم واسعة النطاق.
وقال ألتو سيتالا إن «الاختبارات لاستعادة المستنقعات القريبة من الحدود بدأت بالفعل (..) إنها ليست صعبة، بل يمكن إنجازها بسهولة وسرعة نسبية، على عكس إعادة التحريج التي قد تستغرق عقودًا من الزمن». وقدر أن الأمر قد يستغرق عامًا واحدًا فقط لإغراق مستنقعات البلاد على حدودها الشرقية مرة أخرى.
بيكا توفيري، عضو البرلمان الأوروبي والجنرال المتقاعد الفنلندي، استشهد بالصعوبات التي واجهتها الدبابات السوفياتية في عبور التضاريس المستنقعية والغابات في فنلندا عندما «غزت» فنلندا في عام 1939: «كانت الطبيعة دائماً جزءاً مهماً من دفاع فنلندا».
وأوضح أن إعادة تشغيل المستنقعات ستُعتبر «مكسبًا للجميع (..) إنه مثال جيد على الابتكار في مجال الدفاع، وآمل أن يُؤخذ على محمل الجد».
الجنرال المتقاعد أشار إلى أن روسيا «واجهت صعوبات جمة في عبور حتى الحواجز المائية الضيقة. إن الإجراء البسيط والرخيص المتمثل في إعادة ترطيب الأراضي الرطبة سيُحدث نفس النتيجة هنا».
وتستمع دول البلطيق، التي تشترك في حدود تمتد لمسافة 600 ميل مع روسيا وبيلاروسيا، إلى المقترحات أيضًا.
وقالت وزارة المناخ الإستونية لصحيفة «بوليتيكو» الأسبوع الماضي إنها تستكشف بنشاط ما إذا كان ينبغي استعادة مستنقعاتها وأهوارها للمساعدة في الحماية من الهجوم الروسي ومحاربة الانحباس الحراري العالمي.
هل تنجح هذه الاستراتيجية مع جميع دول أوروبا؟
لكن خطط الدفاع القائمة على المستنقعات لن تنجح في جميع دول حلف الناتو الأوروبية؛ فعلى سبيل المثال، تبدو ألمانيا، التي جُففت أو دُمرت معظم أراضيها الخثية، أقل حماسًا بكثير.
وقالت ناتالي جينينج، من وزارة الدفاع الألمانية، لصحيفة «التلغراف»: «إن إعادة الأراضي الرطبة يمكن أن تكون ميزة وعيوبًا في نفس الوقت بالنسبة للعمليات الخاصة بالشخص».
وأشارت إلى أن أحد أسباب «القلق الرئيسي هو أنه في حالة تعرض حلف شمال الأطلسي لهجوم، فإن قوات التحالف سوف تحتاج إلى التحرك بسرعة عبر ألمانيا إلى الشرق».
استراتيجية قديمة
جينينج أضافت أن «إعاقة تحركات العدو من خلال الفيضانات والإغراق كانت تستخدم في الحرب لفترة طويلة جدًا ولا تزال خيارًا قابلاً للتطبيق اليوم».
وهناك أيضًا قضايا أخرى واضحة، بما في ذلك الاضطرار إلى التعامل مع الأراضي المملوكة للقطاع الخاص ووقف أعمال الغابات أو الزراعة في بعض المناطق، مما يؤثر على سبل عيش الآلاف من الأشخاص.
ولقد ساعد فيضان حوض إربين في كسب معركة كييف، لكنه كان مدمراً بيئياً ومؤلماً للغاية بالنسبة لأولئك الذين غمرت المياه منازلهم وأراضيهم.
ومن المرجح أن تركز مقترحات فنلندا وبولندا على الأراضي المملوكة للدولة في الوقت الراهن، لكن إذا أصبحت الخطط حقيقة واقعة وتم توسيع نطاقها، فلن يكون من الممكن تجنب هذه المشكلة.
ويرى عالم البيئة البولندي البروفيسور كوتوفسكي أنه رغم المقاومة، فليس هناك سبب وجيه لعدم إحياء مستنقعات حلف شمال الأطلسي كدرع دفاعي.
وأضاف أن «الحرب ليست ما نود نحن العلماء ربط أجندتنا الخاصة بالتنوع البيولوجي به، ولكن يتعين علينا استعادة أراضي الخث، والآن لدينا حافز جديد للقيام بذلك».