المشهد السوداني العاصف شرّع أبواب البلاد والعباد على المجهول، ضحايا الحرب الدائرة لن تقتصر على طرف دون آخر ولا على مكوّن عسكري أو مدني بمفرده، إنها الحرب؛ أشبه بفم غولٍ امتهن ابتلاع كل شيء يصادفه في طريقه.
قوانين الحروب الداخلية معروفة وتكاد تكون موحدة الأدوات والأساليب والنتائج في أي بقعة صراع، الطرفان المتحاربان خاسران مهما توهم أحدهما بوفرة حصاده.
أقسى الخسائر يتكبدها الإنسان والوطن، تفقد الحرب أهدافها ولا يفقد مشعلوها تبريراتهم، منطقها تصوغه فوهات المدافع والدبابات وحمولات الطائرات، معزَّزة كلها بإصبع محارب يضغط على زناد بندقية فقدت وظيفتَها لحظة استهداف شقيقه في الوجع أو شريكه في الوطن.
اعتادت الحرب أن تأخذ معها الأغلى والأجمل والأهم، الحرب تنذر بتحويل السودان، سلطة ودولة وشعبا، إلى نتاج مشرذم لأنه أساسا كان قد وصل إلى واقعه الصعب الراهن نتيجة تراكم أخطاء ارتكبتها مكونات السلطة بشقيها المدني والعسكري.
إيقاع المواجهات العسكرية يشي بدخولها منطقة المراوحة بالمكان مهما تغيرت جغرافية القتال وتوسعت أو تقلصت حتى وإن اختلفت أدواته وأساليبه.
مع أول الرصاص؛ طوت الحرب صفحات السجال والجدال بين المكونات السياسية والحزبية والعسكرية السودانية جميعها بعد أن ظلت مفتوحة أمام الخصومات والمتخاصمين، تتقبل كل أشكال وصيغ المناكفة باللسان لا بالبارود، وبالصوت لا بدوي القذائف.
عامان تقريبا والماكينة السودانية تدور في أكثر من محاولة ومداورة لإنتاج صيغة استقرار سياسي لطالما تلهّف الشعب السوداني إليها.
لم يتردد الإنسان السوداني في التعبير عن توقه للتغيير السلمي عبر مظاهرات واعتصامات كانت بمنزلة المرآة العاكسة لوعيه السياسي والوطني وإدراكه لحقوقه في السعي لنيلها، ودفع عدد من الأرواح ثمنا لذلك خلال محاولاته للانعتاق والتغيير.. في أكثر من منعطف؛ كانت تظهر هشاشة الشراكة داخل السلطة في سياقاتها المتعددة، سواء شراكتها العسكرية مع المكون المدني، أو شراكتها العسكرية - العسكرية.
مأزق السلطة في مختلف تجلياتها السودانية بدا واحداً مع فارق جوهري تَمثّل في أن الشريك المدني في المرحلة الأولى لا يمتلك سوى حجة الحوار ومقارعة الرأي بالرأي، وحين يلمس جمودا وتحجرا لدى شريكه من المكون العسكري، يلجأ إلى مناورة التجدد وتحديث الطروحات وتطويع بعضها في مسعى لملاقاة الآخر دون التفريط بالمبادئ.
مأزق السلطة تفاقم وتشعّب بعد خروج القوى المدنية من المشهد العام وتركُّز السلطة بين يدي الشركاء من العسكريين، لم يتمكن العسكر من استقطاب التيارات الحزبية والمدنية بعد انعدام الثقة بينهما جراء تجربة الشراكة السابقة.
تمسك السودانيون بمطلبهم بأن يكون الحكم مدنيا خالصا فانتقلت التناقضات من الدائرة الأوسع للقوى السودانية إلى دائرة أضيق بين شريكي السلطة من العسكريين وسرعان ما طفت على السطح محملة بكثير من التكهنات القاتمة.
تدحرج الموقف واستعر اللهيب ليطال السودان كله حجرا وبشرا، تراجعت الأمنيات البسيطة أمام هدير الطائرات وأصوات المدافع وتقلصت إلى لهاث قلوب تهفو للنجاة.
السلطة انقسمت فصارت جناحين متحاربين، دخلت الدولة بمكوناتها جميعها، الجغرافيا والناس والمؤسسات العسكرية والمدنية والإدارة والاقتصاد في مأزق أعم يبدو وكأنه يمهد لمحنة أكبر في قادم الأيام.
ما كان ممكن الحدوث بالحوار والتفاهم بين فرقاء الأمس، بات أبعد من أن يُنال بعد أن تجاوز الخطر حدود السلطة ورموزها ليطال كيان الدولة برمتها.
أكثر الدلالات تعبيراً على القلق المتنامي داخل السودان وخارجه من تفاعلات الحرب بين شركاء الأمس؛ لخصته موجات النزوح الداخلي والخارجي، وعمليات الإجلاء الواسعة لرعايا الدول الموجودين في السودان رسميين وغير رسميين.
مع فجر كل يوم إضافي تدونه الحرب تتقلص نافذة الأمل وتكاد تنغلق أمام السودانيين بعد أن ألزم كل طرف من المتقاتلَيْن نفسه بالمضي حتى النهاية في مضمار الحرب حتى تحقيق أهدافه.
غبار الحرب ودخان القذائف حجب رؤية الأفق وخط النهاية.. إلى حين أن تصمت المدافع لسبب ما، سيعاين السودانيون هول حروب الإخوة الأعداء على تراب وطنهم الواحد، وهم الذين اكتووا بنيران حروب داخلية عديدة على مدى خمسين عاما تقريبا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة