سرت الليبية.. من إمارة لداعش إلى مقر الحكومة
ثلاث حقب مرت بها مدينة سرت الليبية خلال الآونة الأخيرة، بدأت بسيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي مرورا بمليشيات مصراتة ثم عودتها إلى "حضن الوطن" عبر سلطة الجيش.
خمس سنوات عجاف عاشها السكان في ظل العهدين السابقين، قبل أن تمتد لها أيادي الجيش الوطني ليوصلها إلى بر الأمان، وتصبح مقرا للحكومة الجديدة المكلفة من البرلمان مؤخرا.
وفي نهاية عام 2014، بدأت عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي التسلل إلى مدينة سرت الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في شكل أفراد ثم جماعات وفي أغسطس/آب 2015 باتت المدينة أكبر ولايات "داعش " في ليبيا بعد سوريا والعراق.
هذه الحقبة التي استمرت لعام كامل حتى منتصف 2016 عاش خلالها السكان أسوأ أنواع المهانة حيث ارتكب التنظيم كعادته في الأماكن التي يسيطر عليها أبشع أنواع الإجرام حيث سجلت الإحصائيات الأممية ارتكابه ما يقارب 49 إعداما غير قانوني صلبا وقطعا للرؤوس كانت معظمها علانية في ساحات عامة.
التنظيم الإرهابي لم يكتف بذلك بل شمل أذاه جميع مناحي الحياة حيث أغلق محالا تجارية يقول إنها تبيع ملابس غربية وملابس داخلية بل وفرض شكل ونوع اللباس على الرجال والنساء وصولا للتدخل في نوع الدروس التي يتلقاها الأطفال في المدارس كما منع تدريس القانون والتاريخ في جامعة المدينة.
اقتصاديا، شهدت المدينة أسوأ فتراتها حيث فرض "داعش" غرامات مالية على مخالفي تعليماته إضافة للإتاوة التي كان يقتطعها من السكان كما صادر ممتلكات في حين كانت جميع تلك الإيرادات، فضلا عن الأدوية والمواد الغذائية تذهب لعناصره ليعيش السكان الفقر المدقع.
بعد عهد داعش، تنفس أهالي المدينة الصعداء بعد تقدم مجموعات مسلحة للمدينة للسيطرة عليها وطرد "داعش" إلا أنه ورغم أن تلك المليشيات القادمة من مدينة مصراتة القريبة دخلت المدينة على أنها المنقذ من "داعش " سلكت ذات منهج الإذلال للأهالي أي أنها كانت وجها آخر لذات عملة التنظيم الإرهابي.
ففي 5 مايو/أيار 2016 دخلت مليشيات مصراتة التي سمت نفسها "البنيان المرصوص" لمدينة سرت لإخراج تنظيم داعش إلا أن الهدف لم يكن إنقاذ السكان بل كان لقطع الطريق على الجيش الليبي لتحقيق مجد جديد في المدينة لا سيما وأن قائد الجيش المشير خليفة حفتر أعلن وقتها حالة النفير والتعبئة والإعداد لتحرير المدينة من "داعش".
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2016، أعلنت مليشيات مصراتة سيطرتها بالكامل على المدينة وطرد التنظيم منها ليبدأ السكان مرحلة أخرى من المعاناة لا تقل قسوة ومهانة عن تلك التي عاشها في عهد "داعش".
سالم الفرجاني، أحد سكان مدينة سرت، قال إن "أهالي المدينة كانوا يعرفون أن ما ينتظرهم على يد مليشيات مصراتة التابعة لحكومة الوفاق آنذاك مقارب لما عاشوه على يد داعش".
تلك الرؤية، بحسب حديث الفرجاني لـ" العين الإخبارية" كانت نابعة "من سوابق لمليشيات مصراتة فهي أحدثت الخراب في كل مدينة دخلتها كالعاصمة طرابلس وقبلها تاورغاء الخاوية تاما من أهلها بسبب تلك المليشيات منذ عام 2011 ناهيك عن البنية التحتية المدمرة والمحروقة لمدينة تاورغاء بسبب تلك المليشيات".
وأضاف الفرجاني أنه "بغض النظر عن أي شيء فالمليشيا تظل ميليشيا لا تنظيم ولا انضباط ولا معرفة بتسيير الأمور المدنية"، لافتا إلى أنه "بعد سيطرة المليشيات على المدينة وطرد داعش رفضت المليشيات تسليم المدينة لجهات مدنية لتسييرها بل بقيت هي الآمر الناهي في جميع مناحي الحياة هنا".
وأكد على أن "أبرز المضايقات في سرت من قبل المليشيات كانت تلك التي طالت قبيلة الفرجان (75٪ من السكان) وهي القبيلة التي ينتمي إليها المشير خليفة حفتر قائد الجيش وذلك في محاولة من المليشيات المسلحة منع أفراد تلك القبيلة من تأييد الجيش الليبي".
إذلال وتنكيل
هكذا وصفت فريحة قدورة حال المدينة في عهد "المصاريت" كما تحب أن تسميهم فهي تقول إن "كل ما حدث من إذلال لأهل سرت وكل ما حصل من تجاوزات على يد مليشيات مصراتة كانت تحدث تحت بند (نحن حررناكم من داعش)".
اقتصاديا تحدثت فريحة قدورة لـ"العين الإخبارية" عن عهد مليشيات مصراتة قائلة إنه "في ذلك الوقت كانت المدينة لا غاز ولا كهرباء ولا شيء من مناحي الحياة".
وأشارت إلى أن "ذلك كان متعمدا من قبل المليشيات التي أرادت أن تسيطر على كل شيء هنا ليبقى سكان المدينة تحت رحمتها فلا يفكرون في أي احتجاج أو انتقاد لها".
عودة تحت سلطة الجيش
أما في 6 يناير/كانون الثاني من عام 2020 فقد أطلقت القوات المسلحة العربية الليبية عملية عسكرية خاطفة لتحرير مدينة سرت من براثن مليشيات مصراتة وهو ما وقع فعلا بعد ثلاث ساعات فقط من دخولها للمدينة في عملية عسكرية كانت بلا دماء قط.
بعدها بدأ عهد آخر في المدينة وصفه "فاضل الخشمي" بـ"عودة المدينة من جديد لحضن الوطن".
وقال الخشمي لـ"العين الإخبارية" إن "الجيش وفر كل ما تحتاج المدينة من دواء وبنزين رغم أنه غير مضطر لذلك فيكفي أنه خلصنا من المليشيات".
وأوضح أن "الأمر الأهم أننا تخلصنا من جميع المظاهر العسكرية فلا سيارات تحمل مدافع في الشوارع ولا نقاط تفتيش مزعجة هنا بل إن الجيش سلم المدينة بعد تحريرها مباشرة للشرطة لتأمينها ومجلس بلدي إداري لتسييرها والوقوف على متطلبات المواطن".
وعن تلك الخطوة، قال الضابط وليد العرفي المتحدث باسم الإدارة العامة للبحث الجنائي (أكبر قوات شرطة في ليبيا) إنه "بعد تحرير الجيش لمدينة سرت من المليشيات لم يتدخل حتى الآن في تسيير أمورها".
العرفي أوضح، في تصريح لـ"العين الإخبارية"، أن الجيش الليبي سلم مهمة تأمين سرت لقوات الشرطة في 9 يناير/كانون الثاني 2020 أي بعد أيام فقط من تحرير الجيش للمدينة".
وأشار الضابط إلى أن "هناك مناطق كانت محرمة على سكان سرت دخولها بسبب اتخاذ المليشيات مقرا لها هناك من بينها حي سبها داخل سرت".
وتابع: "أما الآن أصبح الوضع أفضل حيث يتنقل أهالي المدينة بسيارات حديثة فارهة دون أن يخافوا أن تسطو عليها المليشيات التي كانت تسيطر على المدينة".
كما ظهرت بحسب وليد العرفي "جميع معالم الدولة في سرت حيث الشرطة النظامية والمرور هم من يقومون بتأمين المدينة بزي رسمي خلافا لما كان عليه الوضع سابقا".
وختم الضابط الليبي حديثه مؤكدا أن "مدينة سرت تشهد الآن حالة من الاستقرار والأمن والأمان لحد أنه تقرر أن تكون مقرا للحكومة الليبية الجديدة".
مقر للحكم
وفي 4 مايو/أيار، أعلن رئيس الحكومة الليبية المكلفة من قبل مجلس النواب فتحي باشاغا في مارس/آذار الماضي أن حكومته ستمارس مهامها من مدينة سرت وذلك بعد تعثر مباشرتها العمل من العاصمة طرابلس نتيجة تمسك رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة بالسلطة ورفضه التسليم.
وفي إعلانه، أوضح باشاغا أن اختياره لسرت جاء لعدة أسباب منها أنها "مدينة تقع وسط ليبيا وتربط شرق البلاد بغربها وجنوبها وثانيها أنها مدينة ليس لها أي توترات أو عداوات مع باقي المدن الليبية".
والثلاثاء الماضي، شهدت سرت اجتماعا موسعا دعا له رئيس البرلمان عقيلة صالح ضم رئيس مجلس الوزراء فتحي باشاغا ومجلس إدارة البنك المركزي ومؤسسة النفط ولجنة المالية البرلمانية وهيئتي الرقابة الإدارية ومكافحة الفساد وديوان المحاسبة ولجنة المالية البرلمانية ووزير المالية.
وتم في الاجتماع بحسب بيان لباشاغا عبر تويتر "الاتفاق على انطلاق أعمال الحكومة من مدينة سرت رسميا وتقديم خدماتها لكافة المواطنين في كامل أرجاء البلاد".
وجاء اختيار سرت بحسب كلمة لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح في افتتاح الاجتماع "تجنبا لإراقة الدماء" كون العاصمة "تحت سيطرة المليشيات المسلحة ولا يمكن دخولها إلا بأحد مسارين إما بالقتال أو بموافقة هذه المجموعات فتكون الحكومة بذلك تحت سيطرة هذه المجموعات".
وأكد عقيلة صالح أن "سرت منطقة يمكن لكل الليبيين من الغرب والشرق والجنوب القدوم إليها دون خوف أو تردد وهي القادرة بحكم موقعها وأمنها على مد جسور الثقة بين المختلفين من كل الأطراف والمناطق ".
وأمس الثلاثاء، باشرت الحكومة الليبية رسميا أعمالها من مقرها في مدينة سرت حيث عقد رئيسها فتحي باشاغا اجتماعا تشاوريا مع أعضاء الحكومة بالمقر الكائن في مجمع قاعات واغادوغو.
وعلق باشاغا قائلا: "لدينا واجب وطني تجاه أبناء الشعب الليبي وليس في صالح مشروعنا الوطني الذي تبنيناه أن نؤجل عمل الحكومة ولذلك قررنا ممارسة أعمالنا من مدينة سرت".