دخلت الصين إلى الجحيم وخرجت منه مرفوعة الرأس بعد تجربة فريدة وطويلة، وهي ترسل البعثات بالمعرفة والتكنولوجيا إلى دول العالم.
لكل أزمة عالمية كبرى قصص لافتة للنظر سوف تميزها عندما يكتب تاريخها؛ وأزمة الكورونا الحالية لا تختلف عما جاء قبلها من حيث تأثيرها سلباً على الجنس البشري، وما سوف تطرحه في النهاية من دروس تدعو إلى العمل من أجل وقف تكرارها أو القول Never again.
القصة الأولي والمثيرة للغاية عنوانها "الخفاش" لأنه في معرض البحث عن مصدر الخطيئة الأصلية، أو المصاب "زيرو" ظهر فوراً أن الصينيين يأكلون الخفافيش ضمن عاداتهم بالاستفادة الغذائية من كل المخلوقات التي تتحرك أو تطير أو تزحف. ووفقاً لويكيبيديا فإن "الخفاشيات"، ومفردها الخفاش، أو الخفود أو الخنفوش أو الوطواط، واسمها العلمي Chiroptera، هو الحيوان الثديي الوحيد الذي يستطيع الطيران بسبب تحور أطراف أصابعه الأربعة إلى غشاء يساعد على الطيران.
وقد عاش هذا الحيوان الطائر منذ ٥٠ مليون سنة حسب الحفائر التي وجدت أنواعاً كثيرة منه عاش بعضها على الفاكهة، وبعضها الآخر على الدماء. وفي العادة فإنها اشتهرت تاريخياً بالقصص الخاصة بمصاصي الدماء و"دراكولا" على وجه الخصوص، ولكنها قبل عقود دخلت إلى تاريخ السينما العالمية من خلال شخصية "الرجل الوطواط" أو Batman الذي يهبط متنكراً إلى مدينة فاسدة بالشر فيقيم فيها العدل ويعدل الميزان.
ولكن ما جعلها بطلاً في أزمة الكورونا أنها من أنواع الطعام الموجودة في مدينة "يوهان" بمقاطعة "هوبي" الصينية التي خرجت منها أولى إشارات العدوى لفيروس "كوفيد- ١٩" الذي ثبت أن "الجينوم" الخاص به يماثل ٨٩٪ من "جينوم" الوطاويط.
هذه الدرجة من التماثل جعلت فكرة "التحول" إلى الفيروس ممكناً من فيروس آخر ربما كان أكثر طبية من الفيروس القاتل الحالي. القصة هكذا فيها قدر غير قليل من الدراما، فالمعتمدون للنظرية "الداروينية" للتطور يعتبرون أن التحول هو نتيجة الاختبار الطبيعي التي تبقى دائماً "الأصلح" أو من يستطيع التواؤم مع الواقع، وفي حالتنا كان الفائز هو القاتل السفاح الذي وضع ثلاثة مليارات من البشر في منازلهم، وفي وقت كتابة هذه السطور كانت البشرية تسير في المليون الثالثة من العدوى.
والمائة ألف الثانية من الوفيات. ولكن قصة الخفاش له جانب آخر لا يقل آثاره وهو التنافس بين الولايات المتحدة والصين في الاتهام بمن كان مصدر العدوى الرئيسي.
دخلت الصين إلى الجحيم وخرجت منه مرفوعة الرأس بعد تجربة فريدة وطويلة، وهي ترسل البعثات بالمعرفة والتكنولوجيا إلى دول العالم الأخرى والمصابة بالفيروس القاتل لا تستثني منهم أحداً ولا تستبعد
القصة الثانية تدور حول الصين ليس فقط في إطار التنافس المشار إليه أعلاه، وإنما حول مكانتها في النظام الدولي، وحتى آخر زياراتي للصين عام ٢٠٠٢ فإن المسؤولين الصينيين كانوا يرفضون تماماً الحديث عن دولتهم باعتبارها قوة عظمى؛ وكانوا لا يقبلون صفة الدولة الإقليمية الكبرى، كان يكفيهم أنهم دولة من دول العالم الثالث الناهضة وكفى.
الآن أصبحت القصة الصينية مختلفة تماماً فهي لم تعد فقط واردة كمصدر للعدوى، ولكنها أيضاً نموذج للخلاص من المرض بعد تجربة طويلة مع المرض ولقاحه والعزل الذي منه.
دخلت الصين إلى الجحيم وخرجت منه مرفوعة الرأس بعد تجربة فريدة وطويلة، وهي ترسل البعثات بالمعرفة والتكنولوجيا إلى دول العالم الأخرى والمصابة بالفيروس القاتل لا تستثني منهم أحداً ولا تستبعد، وهي تُذكر الآخرين ليس فقط بمبادرة "الحزام والطريق".
ولكن معها التذكير بأن الاحتياطيات الصينية المالية فيها قرابة ثلاثة تريليونات من الدولارات، وأن بكين تستحوذ على ١.١ تريليون دولار من السندات الأمريكية. ومهما كانت الاتهامات هنا أو هناك، أو حتى الحقائق في بكين أو واشنطن، فإن المؤرخين لقصة الكورونا سوف يؤكدون أن الصين باتت قوة عالمية عظمى –أولي أو ثانية لا فرق- خلال الربع الأول من العام الأول من العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
القصة باتت نوعاً من حقائق العالم المعاصر، مقلقة لبعض الدول، وباعثاً للراحة لمن كانوا قلقين من دوام حالة سيطرة القطب الواحد على العالم.
القصة الثالثة عن حالة الحضر والتقدم في عالمنا. هذه القصة ليست درساً في علم الاجتماع، ولكنها تقوم على أن واحداً من معايير الحضارة والتقدم في القرن العشرين كان انتقال الناس من الريف إلى الحضر، أو من القرى إلى المدن. هذه الظاهرة تقوم في الأساس على اجتماع أعداد كبيرة من البشر في عمارات وأبراج ووسائل مواصلات ومصانع ومولات أو الأسواق الكبرى؛ هي حالة من الازدحام اللذيذ التي يكون فيها التفاعل لصيقاً في الأفراح والأتراح، في الزيجات والجنازات، وفي المقاهي وفي دور السينما. الدراما التي نشأت عن ذلك كله، حتى تلك التي قامت على الحركة والجريمة، اعتمدت على تلك الحالة من التقارب الإنساني "اللصيق".
"الكورونا" خلقت اختبار التباعد، والعزل الاجتماعي، والتواصل الذي إذا حدث يكون افتراضياً، باختصار انتهى عصر الأحضان والقبل. وفي وقت من أوقات الأزمة تحدث المراقبون عن "القصة السويدية" التي خرجت فيها السويد مختالة بخروجها من الأزمة بأقل التكاليف ودون انتقاص من الحياة الطبيعية في نفس الوقت، ولم يحتاج الزمن إلى كثير من الوقت حتى يعرف الناس أن نصف السكان في السويد يعيشون فرادى في بيوت لا تعرف اتصالاً إنسانياً من الأصل، وإذا حدث فإنه يكون لاعتبارات وظيفية منتجة لا تتعدى ساعات قليلة.
التجربة السويدية كانت فريدة نوعاً ما لأن السويد كانت تمارس الانفصال الاجتماعي مبكراً قبل أن تتعلمه البشرية تحت وطأة الأزمة.
القصة الرابعة تسمى "المعتاد الجديد" أو "The New Normal" ومشهد البداية فيها أن البشر يعشقون أن تكون حياتهم عادية يعرفون كل شيء عما يجب عليهم فعله بين الصباح والمساء، والعكس صحيح أيضاً من المساء للصباح، المهم أن يحدث الاعتياد.
القصة منذ البداية موضع شك وإلا لما كانت هناك النزعة إلى الإثارة التي يبحث عنها الإنسان طوال الوقت؛ ولكن أوقات أزمة الكورونا خلقت نوعاً من التوق إلى معرفة ماذا سوف يأتي بعدها، ولاستجلاب الإثارة والمتعة الفكرية شاعت قصة أن ما سوف يأتي بعد الكورونا لن يكون كما كان قبلها.
وامتدت القصة من المنازل والعائلات إلى النظام الدولي كله، ولم تكن قصة الصين التي أشرنا لها هي القصة الوحيدة بل أضيفت لها قصص عن التكنولوجيا وأدوارها الحميدة، ومعها كانت الشماتة في دول كانت تظن أنها عظمى. وإذا كان سقوط حائط برلين هو بداية نهاية الاتحاد السوفيتي فربما تقوم الكورونا بدور الحائط في القصة الأمريكية، أو هكذا كانت تمنيات بعضها طيباً وبعضها الآخر شريراً.
ولكن وهذه قصة علماء النفس أن الإنسان الذي عاش في العزل مع العائلة لفترات طويلة وجد نفسه مرحباً أو لاعناً عائشاً في ذلك المعتاد الجديد. لم يكن أحد يعلم أن ذلك الفيروس الذي جاء نتيجة قصة تحول فيروسي داخل خفاش لا يعرف أحد عما إذا كانت حقاً أو كذباً يمكنه أن يقود إلى كل هذه القصص، وغيرها ليس قليلاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة