من الجدري إلى كورونا.. 223 عاما على تطوير اللقاحات لإنقاذ البشرية
اللقاحات تمثل واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ الطب الحديث بداية من تطوير أول لقاح تم إعطاؤه لإنسان ضد مرض الجدري.
ومع بداية تفشي فيروس كورونا المستجد أو الذي بات يعرف باسم "كوفيد-19"، والذي صنفته منظمة الصحة العالمية كجائحة عالمية، اتجهت أنظار العالم إلى مراكز الأبحاث أملا في الوصول إلى لقاح للوقاية منه، ومع كل رقم يتم إعلانه يوميا عن إصابات ووفيات جديدة كانت الحاجة إلى وجود لقاح تصبح أكثر إلحاحا.
وخلال أكثر من عام ونصف العام على بدء الجائحة، يوجد الآن 105 لقاحات لـ"كوفيد-19" مرشحة في جميع أنحاء العالم تخضع لتجارب سريرية، و184 في مرحلة ما قبل السريرية، كما يوجد حوالي 8 لقاحات تجاوزت تلك المراحل وتم اعتمادها للتداول، ويعول العالم آمالا كبيرة على توفير عدد الجرعات الكافية التي تحمي العالم من جائحة "كوفيد-19".
وتمثل اللقاحات واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ الطب الحديث بداية من تطوير أول لقاح تم إعطاءه لإنسان من قبل العالم الإنجليزي إدوارد جينر، وكان ضد مرض الجدري، حيث لاحظ جينز أن "ساره نيلمس"، التي كانت تعمل في حلب البقر، قد نجت من الإصابة بالجدري البشري، بسبب إصابتها سابقا بحمى جدري البقر الأخف وطأة من الجدري البشري.
اللقاح الأول
ويقول مقال نشره موقع كلية الأطباء "college of physicians" في 20 مارس 2017، إن ملاحظته لحالة نيلمس دفعته لاستنتاج مهم، وهو أن أخذ مواد من جلد بقرة مصابة، وحقنها بشخص آخر لإصابته بنفس المرض سوف يولد مناعة مستقبلية ضد مرض الجدري، وذلك لأن المرض الذي يصيب البقر مشابه لما يصيب البشر، ولكنه أقل خطورة.
وطور "جينر" اللقاح الأول ضد الجدري عام 1798 مستندا إلى هذه الملاحظة التي قادت العالم إلى استئصال المرض، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 1980 انتهائه من العالم، وكان آخر مريض أصيب به عام 1977 في الصومال.
ويعد اللقاح الذي أنتجه "جينر" هو الأول الذي تم تطبيقه على البشر، وسبقه محاولات في الطب التقليدي الصيني ضد بعض الأمراض غير المنتشرة مثل لدغ الثعبان، ولكنها لم تكن في صيغة دوائية مثل "جينز"، حيث كان الرهبان البوذيون يشربون سم الثعبان لمنحهم الحصانة ضد لدغة الثعبان، وذلك وفق مقال نشره موقع "immune.org" في يناير من عام 2020.
ويحكي المقال نفسه الذي نشر تحت عنوان "نبذة مختصرة عن تاريخ اللقاحات"، ما فعله إنجاز "جينر" في مجال إنتاج اللقاحات، حيث عمل بعده العالم الفرنسي "لويس باستور" على إنتاج لقاح ضد مرض "كوليرا الدجاج" عام 1879، وتوصل بالصدفة عام 1880 لإنتاج اللقاح.
ووفق ما جاء في المقال، فقد حقن "باستور" بعض الدجاج بجراثيم كوليرا الدجاج من مزرعة جراثيم قديمة كانت لديه، ولم يمت الدجاج، فقام بتكرار هذا الأمر ولكن من مزرعة جراثيم أحدث، وكانت فكرته حينها أن المزرعة الأحدث ستكون جراثيمها أقوى.
وقام "باستور" بحقن مجموعتين من الدجاج، واحدة تم حقنها بالجراثيم القديمة والأخرى لم تحقن من الأساس، وكانت النتيجة أن التي حقنت من المزرعة القديمة أصبحت حصينة ضد المرض، واعتقد أن أجسامها استغلت الجراثيم الضعيفة لتكوين مناعة ضد الجراثيم الحديثة الأقوى.
داء الكلب
واتجهت مساعي "باستور" بعد ذلك إلى توسيع نظريته لتطوير لقاحات ضد أمراض أخرى كمرض السل والكوليرا والحصبة والجمرة الخبيثة، وقرر في عام 1882، تركيز جهوده في حل مشكلة داء الكلب، ونجح في حله خلال ثلاث سنوات بعد ذلك، عندما لقح طفلا يدعى "جوزيف ميسترو" يبلغ من العمر 9 سنوات كان قد عضه كلب مصاب بالفيروس.
واستمرت جهود إنتاج اللقاحات، حيث استخدمت نفس طريقة "باستور" لإنتاج لقاح الطاعون في أواخر القرن التاسع عشر، وهو لقاح يستخدم ضد بكتيريا (يرسينيا طاعونية)، وانتشر تطوير اللقاحات البكتيرية، بما في ذلك لقاح السل الذي تم تطويره من الذرية الموهنة لبكتيريا "المتفطرة البقرية" المسببة للسل البقري.
في عام 1923، نجح العالم البريطاني ألكسندر جليني في ابتكار لقاح ضد بكتريا "المطثية الكزازية" ( التيتانوس )، التي توجد في جميع أنحاء العالم في التربة وفي أجهزة الأمعاء الحيوانية، ويمكن أن تلوث العديد من الأسطح والمواد، وتم استخدام نفس الطريقة لتطوير لقاح ضد الدفتيريا ولقاح ضد جرثومة (البورديتيلة الشاهوقية) المسببة للسعال الديكي عام 1926.
نقلة علمية
وألقت مقالة علمية نشرها الطبيب الأمريكي ستانلي بلوتكين في 26 أغسطس عام 2014 بدورية pnas، الضوء على النقلة العلمية التي حدثت في إنتاج اللقاحات بالانتقال من استخدام الحيوانات في إنتاجها إلى استخدام الخلايا البشرية.
ويقول "بلوتكين" الذي عمل مستشارًا لمصنعي اللقاحات، ولعب دورًا محوريًا في اكتشاف لقاح ضد فيروس الحصبة الألمانية أثناء عمله في معهد ويستار في فيلادلفيا، إنه على الرغم من نجاح صناعة العديد من اللقاحات باستخدام الحيوانات، فإن هذه الطريقة مكلفة وتتطلب مراقبة مكثفة للحيوانات، للحفاظ على صحتها، وقد تكون هذه الحيوانات حاملة لبكتيريا أو فيروسات أخرى يُحتمل أن تلوث اللقاح النهائي.
وصنعت لقاحات لشلل الأطفال في منتصف القرن العشرين باستخدام خلايا القرود، وتبين في النهاية أنها تحتوي على فيروس قردي اسمه إس في 40 (SV40)، أو الفيروس القردي 40، لحسن الحظ تبين أن الفيروس غير مضر بالبشر.
وتعتمد الطريقة التي أحدثت اختراقا مهما في هذا المجال على إنتاج اللقاح باستخدام أسلوب زراعة الخلايا، والتي تعتمد على تنمية خلايا في طبق زرع، ويكون ذلك غالبا في وسيط انمائي داعم مثل الكولاجين، ويتكون خط الخلايا من خلايا مأخوذة مباشرة من نسيج حي، مثل الأرومات الليفية، والخلايا الظهارية، والخلايا البطانية.
ويقول "بلوتكين": "باستخدام الخلايا، يمكن للباحثين زراعة الفيروسات في نوع معين منها لإضعافها، بما يسمح باستخدامها في اللقاحات".
ويضيف أنه يمكن القيام بذلك، عن طريق تكرار زراعة الفيروس في الخلايا البشرية المحفوظة في درجة حرارة أقل بكثير من درجة حرارة الجسم البشري الطبيعية، لكي يستمر الفيروس في التكاثر، ويتكيف مع هذه الدرجة المنخفضة، بحيث لا ينمو إلا في هذا المعدل، مما يفقده قدرته الأصلية على النمو بصورة جيدة في درجات الحرارة الطبيعية للجسم.
وأول اللقاحات المستحدثة باستخدام فصائل الخلايا البشرية كان لقاح الحصبة الألمانية، الذي تم إعداده من سلالة من فيروس (الروبيلا) الموهن، والذي قام بتطويره ستانلي بلوتكين في معهد ويستر في فيلادلفيا، بالولايات المتحدة الأمريكية، وتطورت أساليب زراعة الخلايا، وأدى ذلك لظهور لقاحات مثل لقاح شلل الأطفال الفموي.
برنامج موسع
هذا التاريخ الطويل للقاحات ساعد منظمة الصحة العالمية على تنفيذ برنامجا موسعا للقاحات عام 1974، وتأسس هذا البرنامج مع تقدم العالم نحو استئصال الجدري، ويستهدف استئصال الأمراض الستة وهي: السل، الالتهاب الرئوي، الإسهال ، السعال الديكي ، الحصبة، وشلل الأطفال.
وتقول د. مارغريت تشان، المديرة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية في مقال نشره الموقع الرسمي للمنظمة: "كان هناك شعور قوي بالثقة في إمكانية التغلب على الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات، عن طريق الالتزام والتعاون على الصعيد الدولي، حيث اعتُبر استئصال الجدري دليلاً على قدرة اللقاحات على تحسين العالم على نحو مستدام".
وتضيف: "خلال العقود التي مرت منذ ذلك الحين، حافظ البرنامج الموسع للتحصين على النجاح الذي ولد من رحمه، ففي عام 1974، كانت نسبة الأطفال الحاصلين على الحماية من الأمراض المميتة الستة التي يستهدفها البرنامج لا تتجاوز 5%، واليوم وصلت هذه النسبة إلى 86%، وحققت بعض البلدان النامية نسبة تزيد على 95%".
قصة نجاح جديدة
ويعيش العالم قصة نجاح جديدة حيث توصلت عدة فرق بحثية حول العالم إلى إنتاج لقاح لفيروس "كورونا الجديد" باستخدام أكثر من تقنية مثل تقنية "الناقل الفيروسي"، التي تستخدمها لقاحات (أسترازينكا) و (كانسينو) الصينية و (سبوتنك 5) الروسي و (جونسون آند جونسون).
وتعتمد هذه التقنية على حقن المادة الوراثية للفيروس، والتي تتعلق بالجزء الأكثر وضوحًا فيه وهو بروتين "سبايك"، وسط التركيب الجيني لأحد الفيروسات، حيث تستخدم أسترازينكا "فيروس الأدينو"، وهو المسبب لنزلات البرد الخفيفة لدى الشمبانزي، وتستخدم (كانسينو) الصينية، و(سبوتنك 5) الروسي، و(جونسون آند جونسون) أحد فيروسات "الأدينو" المسببة لنزلات البرد عند البشر.
أما لقاح كالذي تنتجه شركة "سينوفارم" الصينية، فيستخدم تقنية تعرف باسم "الفيروس المعطل"، حيث يستخدم الفيروس نفسه بعد إفقاده القدرة على إحداث المرض والاحتفاظ بقدرته علي تحفيز جهاز المناعة لإنتاج الأجسام المضادة.
وتوجد تقنية ثالثة كانت تجري عليها أبحاث منذ فترة طويلة، لكنها تستخدم لأول مرة في لقاحات صارت معتمده ومتداولة حاليا للوقاية من "كوفيد-19" وهي تقنية "الرنا مرسال" التي تستخدمها شركات "موديرنا"، و"فايزر"، و"بيونتك"، وتعتمد هذه اللقاحات في تكوينها على المادة الوراثية التي يُعاد برمجتها لإنتاج مستضدات مسببة للأمراض (مثل طفرات البروتين الفيروسي)، والتي تحفز بعد ذلك استجابة مناعية تكيفية ضد العامل الممرض.
السؤال المهم
وإذا كانت اللقاحات التي تم إنتاجها لأمراض مثل الجدري وشلل الأطفال تمكنت من استئصال المرض، فهل ستكرر لقاحات "كوفيد-19" الأمر ذاته؟.
الإجابة جاءت في دراسة لباحثين من قسم الصحة العامة في جامعة أوتاغو ويلينجتون بنيوزيلندا وتم نشرها في 9 أغسطس/آب الجاري بـ"المجلة الطبية البريطانية".
وتوقعت الدراسة القضاء على "كوفيد-19 " عالميا، وهو ما يعني "التخفيض الدائم للعدوى العالمية الناجمة عن فيروس كورونا المستجد المسبب للمرض لتصل إلى الصفر".
وقال الباحثون إن التطعيم وتدابير الصحة العامة والاهتمام العالمي بتحقيق هذا الهدف نتيجة الخراب المالي والاجتماعي الهائل الذي أحدثته جائحة (كوفيد-19) ، كلها عوامل تجعل القضاء ممكنًا.
لكن أضافوا أن التحديات الرئيسية لتحقيق هذا الهدف تكمن في تأمين تغطية عالية بما فيه الكفاية للقاح والقدرة على الاستجابة بسرعة كافية للمتغيرات التي قد تتجنب المناعة.
aXA6IDMuMTM4LjEzNS40IA==
جزيرة ام اند امز