يتجه صراع الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا إلى مساحة جديدة من التباين بشأن رفع الحد الأدنى الائتماني، وهو ما يرتبط بحالة الاستقرار السياسي والاقتصادي للداخل الأمريكي.
ورغم ما طرحه الرئيس جو بايدن في خطاب الاتحاد من أن الولايات المتحدة قادرة على قهر التحديات، وأن اقتصادها أهم من أي اقتصاد آخر على وجه الأرض، في إشارة إلى الصين، وأن الديمقراطية الأمريكية لا تُقهر، وتأكيد العمل مع الحزب الجمهوري بعد حالة الانقسام في الكونغرس، ورغم أن موافقات الحزب الجمهوري تمضي كثيرا في إطار روتيني، فإن الأمر هذه المرة مختلف تماما في ظل عدة أمور كرسها خطاب الاتحاد.
أولها: اشتراط الحزب الجمهوري ألا يتم تخفيض كبير في الميزانية العامة في الفترة المقبلة، وهو ما يتحفظ عليه قادة الحزب الديمقراطي ويرفضونه، وسط حالة التقلبات الكبرى التي تجري في محيط السياسات المالية والنقدية بالولايات المتحدة وخارجها، بدليل استمرار تحذير وزارة الخزانة من أن الفشل في رفع سقف الدين العام بحلول شهر يونيو المقبل سيؤدي إلى تخلف الولايات المتحدة عن سداد الدين لأول مرة في تاريخها.. الأمر الذي قد يعرّض سُمعة الاقتصاد الأمريكي للخطر، وسيؤدي إلى مزيد من تأثر حركة الاستثمار داخل وخارج الولايات المتحدة.
هذا الأمر سيصب بالتأكيد في صالح الصين والقوى الآسيوية، ويخدم التجمعات الاقتصادية الدولية، وسيعرض مؤسسات المال الغربية لهزة حقيقية لا يمكن التعامل مع تداعياتها بسهولة، خاصة مع استمرار الولايات المتحدة في إعادة تمركز قواتها العسكرية والاستراتيجية في العالم، واستمرار الأزمة العالمية المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، ما سيتطلب تماسك الداخل الأمريكي وعدم الدخول في مناكفات تتعلق بالدعم المالي المفترض أن يوفره الكونغرس.
ثانيها: تأكيد الجمهوريين أن الرئيس بايدن هو "العقبة الرئيسة"، إضافة لعدد من مستشاريه، والذين يعملون في اتجاه واحد، بدليل تحركهم في سيناريو أنه لا حاجة إلى أي مفاوضات مع الحزب الجمهوري داخل الكونغرس وخارجه، وأنه تحت ضغط الموقف الراهن داخليا وخارجيا وصعوبة طرح بدائل عديدة فإن الأمر سيتعلق بالحصول على الحد الائتماني المنشود، وحسم الأمر، وهو ما لا يريده قادة الحزب الجمهوري، والذين يرون أن إبقاء عجلة الاقتصاد دائرة يستلزم إجراءات متنوعة وعدم الاقتصار على إجراءات وقتية مكررة.
في نهاية المطاف، فإن الحزب الديمقراطي عليه أن يدخل في سلسلة مفاوضات لطرح سياسات توافقية، خاصة أن ما يجري جزء من كل ومرتبط بإعلان بايدن عن قرب ترشحه لانتخابات 2024، ما يزيد المناكفات مع الجمهوريين، الذين يسيطرون على المشهد العام في الكونغرس، ورؤيتهم بأن وضع الاقتصاد الأمريكي في حاجة إلى مراجعة كاملة وإلا سيحصد مزيدا من التأزم، بدليل إعلان رئيس مجلس النواب الجمهوري، كيفن مكارثي، أن الاعتراض على تمرير القرار مرتبط بتحفظ مجموعات يمينية متشددة داخل الحزب الجمهوري، والذين يفضلون المواجهة والتحدي للرئيس بايدن وقادة حزبه، بصرف النظر عن أي تداعيات مالية مكلفة لوضع الاقتصاد الراهن، مع رفض ما يطرحه الديمقراطيون من تحفظات مستقبلية على إنفاق الحكومة، لأن المبلغ المقدر، والذي وصل إلى أكثر من 31 تريليون دولار هو رقم جرى في الأساسي الاتفاق عليه في الكونغرس.
ثالثها: أنه حال استمرار التباين بين الحزبين، سيكون أمام بايدن وحزبه طلب تحديد المجالات، التي يمكن أن تجري فيها التخفيضات المطلوبة، وهو ما سيضع ضغوطا على برامج الصحة وأنظمة التضامن الاجتماعي المحددة سلفا، والتي تم تمريرها في الكونغرس، ما قد يخلق مناطحة إعلامية عبر نشر مجلس الاقتصاد الوطني مسودة الميزانية، وكذلك نشر الحزبين مسوداتٍ بديلة، وهذا فيما يبدو مخطط الحزب الجمهوري لإحراج بايدن والضغط عليه في توقيت بالغ الأهمية في ظل انخفاض شعبيته، ما قد يدفع إلى حالة عدم استقرار داخل الحزب الديمقراطي، ويعطي الفرصة لمنافسي بايدن للظهور.. من ثم يتحول الخلاف الاقتصادي إلى تباين سياسي تُستخدم فيه كل أدوات الضغط.
رابعها: إقدام وزارة الخزانة الأمريكية -مع كل هذا التباين والتناطح الحزبي- على اتخاذ تدابير استثنائية لخفض الديون المستحقة الخاضعة للسقف المحدد، وتجنُّب التخلف عن السداد، لكن الوزارة حذرت من أن الأدوات والأنماط المطروحة لن تساعد إلا لفترة محدودة لا تتجاوز 6 أشهر، مع العلم بأن مسؤولية الإنفاق العام بلغت أعلى من مستوياته في العامين الأوّلين من فترة رئاسة بايدن، وقد يكون الحل العاجل أن يدفع الأكثر ثراء والشركات الكبرى حصصها العادلة بديلا عن اقتراح بعض الجمهوريين خفض الإنفاق الاجتماعي القابل للتسييس، وسيُقدم بايدن على جمع تبرعات من مانحين ديمقراطيين أثرياء في الفترة المقبلة كجزء من مخططه المدروس لخوض الحملة الانتخابية، ما قد يحل الأزمة، أو على الأقل العبور المرحلي من تبعاتها.
ويخطط الحزب الديمقراطي جيدا لإعادة تقديم بايدن إلى الواجهة الشعبية عبر إنجازات حقيقية، مع الاعتماد على جمع التبرعات، خاصة في نيويورك وفيلادلفيا، كما اتجه بايدن في خطاب حالة الاتحاد لتأكيد ثوابت الداخل، وإنجازات الديمقراطيين، وتسكين الأوضاع في الكونغرس للحفاظ على تقدم الحزب الديمقراطي، فيما لا يزال في الذاكرة الأمريكية القريبة أن الرئيس بايدن نجح كأول مرشح أمريكي في التاريخ الفيدرالي أن يجمع أكثر من مليار دولار في إطار حملته لمواجهة ترامب، في إشارة إلى قدرة بايدن، والتي يمكن أن يعيد تحقيقها رغم كل ما يتردد بشأن الوضع الراهن له وحزبه.
معارك الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، لن تنتهي في إطار الضغوطات المالية وإشكالية الميزانية العامة، خاصة مع ارتباط ذلك بقرب الاستعداد الفعلي لمعركة انتخابات الرئاسة، وحرص الديمقراطيين على إحراز تقدم فيها، مع تقليل هامش المناورة مع "الجمهوري" الذي يريد التصعيد، ومن ثم لن يكون كافيا أن يؤكد بايدن -كما برز في خطاب الاتحاد- أنه استطاع توفير 12 مليون وظيفة خلال سنتين، وأن معدلات البطالة هي الأدنى حاليا، وهو رقم قياسي بالنسبة لمعدل البطالة، وأن التضخم وصل إلى أرقام قياسية بسبب جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وتعطل سلاسل إمدادات الغذاء والطاقة، وأنه قدم مشروع قانون لأكبر خطة للبنية التحتية في الولايات المتحدة منذ عقود، ستوفر مزيدا من الوظائف، فالأمر أكبر من هذا الوضع المتردّي بكثير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة