النقطة المهمة في تحليل كرومان هو ذهابه إلى أن ما نمر به ليس ركودا تقليديا ناجما عن انخفاض في الطلب الكلي، ولكننا إزاء عملية اقتصادية
لا جدال أن سرعة انتشار فيروس كورونا وما نجم عنها من إغلاقات للنشاطات الإنتاجية قد تركت أثرا اقتصاديا كبيرا في دول العالم كافة، ومع أن العديد من الجهات أصدرت عدة تقديرات بحجم الخسائر الاقتصادية المتوقعة، إلا أنه عادة ما يتم مراجعة هذه التقديرات بسبب عدم القدرة على تحديد موعد انتهاء هذه الجائحة.
ومن بين التأملات المهمة في طبيعة هذا الوباء وآثاره الاقتصادية ما ورد في مقال بجريدة نيويورك تايمز يوم 1 أبريل الماضي للاقتصادي الأمريكي بول كروجمان، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008.
ويشير كروجمان في بداية مقاله إلى أن الانكماش الاقتصادي الذي نمر به حاليا هو أسرع انكماش في التاريخ، وبهامش واسع عما سبقه من الانكماشات، فربما تكون الولايات المتحدة قد فقدت خلال أسبوعين في شهر مارس فرص عمل تعادل فرص العمل التي تم فقدها خلال الركود الكبير في عام 2008.
وكانت استجابة السياسة الاقتصادية هائلة هي الأخرى، إذ بلغ مقدار تمويل خطة التحفيز الاقتصادي -التي تم إقرارها من الكونجرس- كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عدة مرات، ما تم رصده لخطة الحفز التي تمت في عهد أوباما في أعقاب الركود الكبير، وعلى الرغم من أن كروجمان يناقش حالة الاقتصاد الأمريكي إلا أن حديثه في الكثير من جوانبه يمكن أن ينطبق على الكثير من الاقتصادات في الوقت الراهن.
وحسب كرومان فخلفية هذا التحليل هو أن ما ينبغي علينا عمله -وإلى حد ما نقوم بفعله- هو إغاثة من الكوارث أكثر منه خطة تحفيز مالي عادية، على الرغم من أن هناك عنصرا حفز أيضا في هذه الخطة.
وهذا العمل الإغاثي يمكن أن يتم، بل ينبغي أن يتم من خلال تمويل بالعجز في الموازنة أي بالديون. وربما تكون هناك بعض الآثار الطفيفة فيما بعد لهذه الديون، ولكن هذا يجب ألا يشكل هذا أي مشكلة كبيرة.
النقطة المهمة في تحليل كرومان هو ذهابه إلى أن ما نمر به الآن ليس ركودا تقليديا ناجما عن انخفاض في الطلب الكلي، ولكننا إزاء عملية اقتصادية تماثل ما يلجأ إليه الطب في بعض الأحيان من إدخال المريض في غيبوبة يتم بموجبها إيقاف وظائف المخ عمديا لإعطاء المريض فرصة للتعافي
والنقطة المهمة في تحليل كرومان هو ذهابه إلى أن ما نمر به الآن ليس ركودا تقليديا ناجما عن انخفاض في الطلب الكلي، ولكننا إزاء عملية اقتصادية تماثل ما يلجأ إليه الطب في بعض الأحيان من إدخال المريض في غيبوبة يتم بموجبها إيقاف وظائف المخ عمديا لإعطاء المريض فرصة للتعافي، والواقع أن تحديد طبيعة المشكلة مهم من أجل التعامل معها.
فحتى الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي كان الفكر الاقتصادي السائد يذهب إلى أن حالات الركود لا يمكن أن تنجم عن نقص في الطلب الكلي، لأنه كان هناك إيمان بما يسمى قانون ساج للأسواق، الذي ينص على أن "العرض يخلق الطلب المساوي له"، ولهذا كان يستحيل حدوث ركود أو كساد اقتصادي عام.
وكان هذا الفكر يرى أن معالجة أي خلل بين العرض والطلب في أي قطاع من القطاعات يجب أن يتم من خلال ترك السوق تصحح ذاتها بذاتها، ففي حال أي نقص في الطلب سيتم الاستغناء عن عدد من العمال ما يدفع نحو انخفاض الأجور في القطاع، وهذا الانخفاض سيؤدي إلى خفض ثمن السلعة أو السلع المنتجة، مما يدفع نحو زيادة الطلب عليها من جديد ويدخل القطاع المعني في حال انتعاش اقتصادي.
لكن القضية أنه أثناء فترة الكساد العظيم حدث نقص في الطلب الكلي، وبلغت معدلات البطالة معدلات قياسية واستمرت لعدة سنوات دون قدرة من السوق على تصحيح نفسه بنفسه، ومن هنا جاء التحليل والفكر الاقتصادي الجديد الذي دعا له اللورد جون مينارد كنيز، وهو ضرورة التدخل من قبل الدولة لحفز الطلب.
ودعا كنيز إلى تدخل الدولة بخطط إنفاق أو تحفيز قوية وعبر وجود عجز في الموازنة أي عبر الاستدانة، ومهمة هذه الخطط الأولى هي إتاحة أي فرص عمل للعمال الكثيرين الذين يعانون من البطالة، حتى ولو كان ذلك كما قال بتكليف هؤلاء العمال بحفر حفر ثم إعادة ردمها في اليوم التالي.
الفكرة كانت الدفع بقوة شرائية جديدة في السوق ستكبر من خلال تضاعفها عند انتقالها من يد لأخرى، أو ما يسمى بالمضاعف، على استعادة الإنتاج من جديد ويدخل الاقتصاد في حال تعافٍ وانتعاش اقتصادي.
ومن أجل تبسيط الأمور، يقول كرومان إنه فكر في الاقتصاد باعتباره مكونا من قطاعين، قطاع للسلع والخدمات غير الأساسية والتي يمكن إغلاقها لتحجيم التفاعلات بين الأفراد، وبالتالي تحجيم سرعة انتشار الوباء، وقطاع السلع والخدمات الأساسية الذي لا يمكننا غلقه (أو ربما لسنا في حاجة إلى ذلك لأنه لا يتضمن تفاعلات شخصية).
ويمكننا بل يجب علينا إغلاق القطاع الأول، حتى يتم عمل أمرين، الأول اختبار واسع للمرض لكي نحدد الحالات ونقوم بعزلها، والأمر الثاني، لو كنا محظوظين، هو التوصل للقاح يجعلنا قادرين على العودة لحياتنا الطبيعية.
ويشير كرومان إلى أن الأمور ستكون قاسية بالنسبة لهؤلاء الذين تم الاستغناء عن عملهم، وحرموا من دخولهم المعتادة حتى تنتهي غيبوبة كورونا، وتتضمن هذه المجموعة العديد من العمال ودوائر الأعمال الصغيرة.
ويبلغ عدد العاملين الذين سيتم الاستغناء عن عملهم في قطاع إنتاج السلع والخدمات غير الأساسية بالولايات المتحدة في المتوسط نحو 47 مليون شخص، كما أنه من المنتظر أن يكون هناك انخفاض مؤقت في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي يصل إلى 30% أو أكثر.
ولكن انخفاض الدخل ليس هو المشكلة، حيث إنه جزء ضروري في عملية التباعد الاجتماعي، ولكن المشكلة هي الحد من المصاعب التي يواجهها هؤلاء الذين انقطعت دخولهم العادية.
ما الذي يمكن عمله لمساعدة هؤلاء الذين انقطعت دخولهم العادية خلال هذه الفترة من الإغلاق؟ إنهم ليسوا في حاجة إلى وظائف، فنحن لا نريدهم أن يعملوا في الوقت الذي يمكن فيه لنظم الأعمال العادية أن تعمل على نشر مرض مميت.
ما هم في حاجة إليه بدلا من ذلك هو المال، وهذا ما نريده الآن في وقت الإغاثة من الكارثة، وليس خططا للتحفيز الاقتصادي.
النقطة الأكثر أهمية هي أننا لو فشلنا في تقديم المساعدة بشكل كافٍ لهؤلاء الذين أصابهم الضرر أثناء هذه الكارثة فسوف يكونون مرغمين على قطع إنفاقهم بشكل حاد حتى على السلع والخدمات التي ما زال بإمكاننا الاستمرار في إنتاجها، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع لا مبرر له في معدل البطالة (وعن طريق عملية المضاعف يؤدي ذلك إلى بطالة عدد آخر من العمال الذين يتم الاستغناء عنهم في قطاع السلع والخدمات الأساسية مما يؤدي إلى خفض الإنفاق أكثر فأكثر).
ولذا فمساعدة هؤلاء الذين كانوا يعملون في القطاع الذي تم إغلاقه تتضمن عنصرا تقليديا من السياسة المالية التحفيزية، على الرغم من أن هذا ليس هو الهدف المركزي لهذه المساعدة.
أخيرا فالإغلاق المفاجئ لتيار العائد للعديد من دوائر العمل يخلق ضغوطا مالية مماثلة لما حدث في عام 2008-2009، مع تهاوي أسعار الأصول ذات المخاطر ومحاولة المستثمرين التراكم في السندات الحكومية، ولهذا فمجلس الاحتياطي الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) كان مصيبا أن يذهب إلى "فعل كل ما يتطلب الأمر"، من أجل العمل على استقرار أسواق المال.
بمعنى آخر هناك أجزاء من هذه الأزمة تشابه محاربة الركود التقليدي، ولكن القضية الجوهرية تظل هي الإغاثة من الكارثة بالنسبة لهؤلاء الأشد تضررا من الإغلاق.
من أين ستحصل الحكومة على الأموال من أجل الخطة التي وافق عليها الكونجرس بالفعل، والتي تتضمن إنفاقا يبلغ حجمه 2 تريليون دولار، والإجابة هي الاقتراض، فمعدل الفائدة الحقيقي على الاقتراض الفيدرالي سالبة.
ولكن لماذا يكون الاقتراض رخيصا للغاية هكذا؟ من أين تأتي الأموال؟ والإجابة هي من المدخرات الخاصة التي ليس لديها مكان آخر تتوجه إليه، فحينما نحصل أخيرا على بيانات عما يحدث الآن، فمن المؤكد أننا سنرى ارتفاعا حادا في المدخرات الخاصة، حيث يتوقف الناس عن شراء ما لا يستطيعون شراءه، وانخفاضا كذلك في الاستثمار الخاص، لأنه من سيستثمر أثناء الجائحة.
ولكن، الوباء سينتهي في نهاية المطاف، فهل ستكون هناك آثار للدين؟ من وجهة نظر الجدارة الائتمانية الحكومية لا توجد آثار على الإطلاق، فنحن نعيش في عالم تعد فيه معدلات الفائدة بشكل مستمر أقل من مستوى معدل النمو، ولهذا فالدين الحكومي سيضمحل عوضا عن أن يتعاظم، فالحكومة ليس عليها إعادة سداد المال الذي اقترضته، فقط عليها العودة إلى المستويات المستدامة من العجز (وليس عدم وجود عجز في الموازنة على الإطلاق) وجعل نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي تنخفض عبر الزمن.
ويخلص كرومان في نهاية مقاله إلى أن الولايات المتحدة تواجه فترة غير معلوم أمدها، حيث يمكن للاقتصاد بل ينبغي أن يكون الاقتصاد في حال إغلاق، والهدف الرئيس من السياسة الاقتصادية خلال هذه الفترة ينبغي ألا يكون إنعاش الناتج المحلي الإجمالي، ولكن تخفيف المصاعب التي يواجهها هؤلاء الذين حرموا من دخولهم العادية، والحكومة الأمريكية يمكنها ببساطة أن تقترض المال الذي تحتاجه من أجل فعل ذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة