قد يكون اختزال المشهد الحزبي في إسرائيل بأننا سنتعامل مع حكومة "مؤقتة وغير جادة وقد يتفكك ائتلافها في أقرب فرصة"، أمراً غير صحيح.
بالتأكيد سيحتاج ذلك إلى مراجعة سياسية في ظل ما يجري خلال الأيام الأخيرة من تحركات عاجلة لهذه الحكومة في كل الاتجاهات، خاصة على المستويين الفلسطيني والعربي.
الحكومة الحالية في إسرائيل على رأسها نفتالي بينيت، وهو مستوطن ينتمي لـ"الحركة اليهودية القومية"، وترأس من قبلُ "مجلس المستوطنات القومي" في الضفة الغربية، وهو من الداعين بصورة كبيرة للتعامل مع ملف الاستيطان بجدية وعدم التسليم بسياسة الوضع الراهن، خاصة أنه وشريكه في الائتلاف، يائير لبيد، بَنَيا إطار الائتلاف أصلا على المتناقضات، ويعلمان جيداً أن الاستمرار في حكم إسرائيل ليس سهلا، في ظل تربص قوى مناوئة، ما قد يُدخل الحكومة في متاهة صراع البقاء، دون انتظار صراع الأولويات داخل الكنيست في الفترة المقبلة، الأمر الذي سيدفعها إلى البحث عن سياسات أكثر حضوراً وقابلية وتماسكاً.
ولعل تكرار الهجوم على قطاع غزة باستمرار المواجهة سيرفع أسهم الحكومة الجديدة ويُديم بقاءها، خاصة أن أفيف كوخافي، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، ذهب إلى تجديد بنك الأهداف، والعمل مجدداً على سياسات دفع الفصائل الفلسطينية إلى حافة الهاوية، مع استئناف توجيه الضربات، والانفتاح على ملف الاستيطان بالكامل، بعيداً عن أي تنازلات لن يُقدم عليها رئيس الوزراء، "بينيت"، أو شريكه بالائتلاف، على الأقل حالياًّ.
ومن ثمّ، فإن برنامج عمل الحكومة الإسرائيلية سيركز في الأساس على حصد ثقة الإسرائيليين، وهو الأهم، ودعم العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو ما برز في الزيارة الراهنة لرئيس الأركان الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة، وتقليل هامش الخلاف السياسي بين واشنطن وتل أبيب حول الملف الإيراني، والمتوقع أن تُستأنف نقاشاته بعد انتخاب رئيس جديد لإيران، بصرف النظر عن خطابه الإعلامي، ما يفتح هامشاً حقيقياًّ للمناورة وكسب أرضية في تأكيد الخطر الإيراني الكبير، ليس تجاه إسرائيل فقط، وإنما تجاه الإقليم بأكمله.
هذا يعني أن حكومة "بينيت" ليست حكومة انتقالية أو عابرة، فقد تكسب أرضاً، وقد تحقق وجوداً شعبيا حال إقدامها على إجراءات غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، خاصة أن عناصر الحكومة ورموزها السياسية باقية، حيث يجمعها الهدف الرئيسي، الذي يظل صالحاً للعمل، وهو إزاحة رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، من الصورة، وإعادة لم الشمل، والرهان على إحداث انشقاقات حقيقية في "الليكود" وتوظيفها لصالح استمرار التحالف الراهن للحكومة، وهو أمر وارد في ظل انفتاح المشهد على كل الخيارات الممكنة، ما سيدفع الحكومة الحالية نحو سياسات أكثر واقعية.
الإشكالية الحقيقية هو الرهان على مسارات تحرك حكومة "بينيت"، خاصة أنها قد تندفع في تنفيذ عدد من الاستحقاقات المؤجلة، مع علمها أن تنفيذ حكم الإخلاءات في منطقة "الشيخ جراح" ومناطق الاستهداف الأخرى في القدس سيلقى بالفعل مواجهاتٍ كبيرة ستؤدي إلى مزيد من الصدامات، التي لن تستطيع الحكومة الوقوف أمامها، وقد لا تُنصت بالطبع حينها إلى قرارات المحكمة الإدارية العليا في إسرائيل.
بالإضافة إلى احتمالات استمرار المواجهات في غزة، سيكون هناك أيضاً ملف رئيسي يتعلق بمشروع إعمار القطاع بكل تفاصيله المعقدة، حيث ستعمل الحكومة الإسرائيلية على عرقلة تنفيذه، بصرف النظر عن طبيعة ما تم الاتفاق بشأنه مع الأطراف المعنية، خاصة أن مشروع الإعمار سيواجه تحدياتٍ حقيقية نتيجة توقف الحوار الفلسطيني مؤقتاً، ما سيعطي حكومة إسرائيل الجديدة ذريعة لعرقلة دخول بعض مواد البناء، التي تقول إسرائيل إن "حماس قد تستغلها في تصنيع الأسلحة وإعادة بناء قدراتها الصاروخية".
وقد اتضح ذلك، في إثارة جهاز الأمن الداخلي، شاباك، ضرورة وضع قائمة بالبضائع والمواد المسموح بها أمنيا لدخول القطاع.
ستركز الحكومة أيضاً على أولويات الداخل، خاصة أزمة كورونا وتعافي الاقتصاد وتلبية متطلبات الأحزاب المنتمية للائتلاف الحاكم، ما يعني أن الاهتمام بالجانب الفلسطيني، سواء القطاع أو الضفة الغربية، سيكون منطلقاً من سياسات رد الفعل، وما سيتطلبه الوضع للعلاقات بين الجانبين، فبقاء الأوضاع على ما هي عليه وعدم إتمام المصالحة الفلسطينية يأتي في إطار خدمة المصالح الإسرائيلية بصورة حقيقية.
ستتبع حكومة "بينيت" مبدأ الانتظار والترقب مع الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، مع عدم الممانعة في تحقيق صفقة تبادل الأسرى، إيماناً منها بأن إتمامها سيرفع أسهمها أمام الرأي العام الإسرائيلي، ويزيد الثقة في بقائها أطول.
كما ستتحرك الحكومة الجديدة وفق استراتيجية المصالح العليا لإسرائيل، مع استمرار تنفيذ قواعد الاشتباك السياسي والاستراتيجي الراهن، المفروض منذ وقف إطلاق النار، برغم قصف الحكومة للقطاع ردا على إطلاق البالونات الحارقة على منطقة غلاف غزة، كما ستواصل النظر في الوضع الراهن على أنه "وضعٌ هشٌّ"، في ظل عدم توافر ضمانات لصموده.
ستستمر مزايدات الحكومة الإسرائيلية وتصعيد مواقفها، خاصة أنها مع كل إنجاز قد تقوم به ستؤكد فكرة استمرارها وعدم تعثرها، التي يعمل عليها خصومها، في إشارة إلى "نتنياهو"، الذي يخطط لإفشال مسارات التحرك لكل خطوة إجرائية أو جوهرية لحكومة "بينيت"، ما يؤكد أن السياسات الراهنة للحكومة ستكون محل تجاذب مع استمرار متابعة وملاحقة القوى السياسية، التي تريد بالفعل تحقيق مكاسب جماهيرية، بما في ذلك إتمام صفقة تبادل الأسرى، المُعطَّلة منذ سنوات، إضافة لتحييد أي مخاطر واردة على أمن إسرائيل إقليميا، ما سيتطلب تحركا حكوميا سياسيا وأمنيا واستراتيجيا تجاه الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب منشودة.
في كل الخيارات المحتملة، سيظل استهداف الإسرائيليين، خاصة المستوطنين، هو أساس استمرار هذه الحكومة، مع تنحية البُعد الأيديولوجي الحاكم لبعض الأحزاب السياسية، سواء اليسارية أو العربية، من التقييمات العامة، باعتبارها قوى لها أجندتها المعلومة للجميع، والتي لا يمكن التوقف عندها في أي مراجعات ستجري، مع الإقرار بوجود ضوابط ومعطيات جديدة ستحكم ما سيتم طرحه وينبغي التركيز عليه عربيا وفلسطينيا، وعدم التهوين أو التهويل مما يجري، مما يرتبط بأدوات الحركة السياسية الراهنة للحكومة الإسرائيلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة