الشعوب العربية عانت الأمرين خلال قرن من الزمان بسبب الفقر والفساد وغياب الخدمات الرئيسية ثم مع الاضطرابات والثورات
يبدو أن ما يسمى بالربيع العربي الجديد قد بدا وانتهى خلال فترة قصيرة، نتيجة تعدد القوى المشاركة فيه وتحول المظاهرات إلى فولكلور شعبي في سوق البازار الوطني، ورغم شبه الإجماع على المطالب والتعاطف مع الحقوق، فإن رفع سقف المطالب والمبالغة في طرحها أوصل بعضها إلى درجة الاستحالة للظروف المحيطة بالبلاد ولا سيما الجزائر والسودان ولبنان، ووصول الأوضاع إلى حافة الإفلاس والانهيار الاقتصادي.
باختصار شديد يمكن القول إن أي إنسان عاقل ومخلص لا بد أن يؤيد المطالب الشعبية ويدافع عن الحقوق، إلا أن التجارب أثبتت أن حكم الشارع لا يطعم خبزاً، وقد يحقق تقدماً في مجالات محدودة ولن يتمكن من الوصول إلى الحكموكان من أسباب التراجع في حدة الخطاب السياسي المعارض عدم وجود قيادة مشتركة موحدة، بل مجرد قيادات لا تملك الخبرة ولا تجيد إلا تنظيم المظاهرات والندوات، إضافة إلى الاعتماد على عواطف الشارع وفتح التلفزيونات والإعلام بشكل عام لكل أنواع الشكاوى وحرقة الجماهير التي تعاني الفقر والبطالة وتكتوي بنار الفساد والنهب واستباحة المال العام، في بلاد يشكل الشباب نسبة كبيرة من عدد سكانها، وأكثرهم من العاطلين عن العمل، إضافة إلى غياب الخدمات العامة من ماء وكهرباء وطبابة ودواء.
ولعبت السلطات على أوراق عدة إضافة إلى تلك التي أشرت إليها، من بينها الوقت والتفرقة وزيادة معاناة الشعوب وإيصال الاقتصاد إلى حافة انهيار تتماهى مع الحالة السيئة التي وصلت إليه قبل انفجار الوضع، إلا أن الأحداث علمتنا أن حكم الشارع لن يؤدي إلى نتائج إيجابية كاملة، خاصة عند تغليب العواطف ورفع السقف وعدم امتلاك الوسائل اللازمة لترجمتها إلى واقع.
وبدا واضحاً أن كل تأخير في بت المطالب سيؤدي إلى المزيد من الانهيار وصولاً إلى حالة الإفلاس التام. وقد نجحت الأطراف المعنية في الجزائر والسودان في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والقبول بما تحقق بعد هيمنة الجيش على الموقف على عكس لبنان، الذي طال به الشلل وبرزت أزمة الدولار والخسائر اليومية على الاقتصاد وإقفال الشركات وصرف العمال، وتبين أن خسائر الإضرابات بلغت أكثر من الأموال المنهوبة وأن أكثر من ٣ مليارات دولار قد تحولت إلى الخارج، وحددت المصارف سقفاً للسحب.
ففي الجزائر والسودان كانت المظاهرات في بداياتها بمثابة ثورة حقيقية تنادي بمطالب كثيرة تشبه كل المظاهرات، تبدأ من إسقاط النظام وتتوقف عند محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين وإجبارهم على إعادة الأموال المنهوبة، وحقق المتظاهرون الذين كانوا يشكلون صوت الشعب بعض مطالبهم الرئيسية، مثل إسقاط الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وكبار المسؤولين ورموز النظام، والقبول بحوار مع الجيش للوصول إلى صيغة حل، وهو ما جرى أيضاً مع الرئيس عمر حسن البشير الذي أدخل إلى السجن للبدء بمحاكمته وإقصاء كبار مساعديه المتهمين بالفساد.
بمعنى آخر، إن المبالغة في المطالب قد سقطت وتقلصت عند حدود معقولة، نتيجة النجاح في شق صفوف المعارضين واختلاف مشاربهم، ما أدى إلى تمكن الجيش من استعادة نفوذه وفرض نفسه حامياً للنظام والبلاد ومشرفاً على العملية الانتقالية، بعد أن هدأت الضجة وتفرق المتظاهرون بحثاً عن لقمة العيش ولأسباب كثيرة، أبرزها أن الجيش هو القوة الوحيدة القادرة على السيطرة على الأوضاع وحفظ الأمن، إضافة إلى توفر دعم عربي وخليجي وارتياح دولي لدوره.
وفي لبنان كان الجيش هو الضامن الوحيد مع قوى الأمن للمتظاهرين، وأبى أن يقمعهم أو يعتدي عليهم إلا في حدود ضيقة تدخل ضمن الخطوط الحمراء، مثل قطع الطرقات والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.
وأدى التراجع عن بعض المطالب المستحيلة التنفيذ والمغالاة في بعض الأحيان إلى سلسلة تنازلات للجماهير المنتفضة، وانتقل الحديث من الإصرار على قائمة مطالب مثل إجراء انتخابات مبكرة واستقالة الرؤساء وإسقاط النظام إلى مطلب رئيسي واحد؛ وهو حكومة مصغرة من المستقلين والتكنوقراط وإقصاء السياسيين المشتبه بفسادهم، ونتيجة لهذه المواقف انتشرت نكات وطرائف، من بينها "لافتة الشعب بطل بدو الأموال المنهوبة صار بدو بس مصرياتو يلي بالبنك" نسبة إلى تحديد البنوك للحدود القصوى لسحب الأموال.
وباختصار شديد يمكن القول إن أي إنسان عاقل ومخلص لا بد أن يؤيد المطالب الشعبية ويدافع عن الحقوق إلا أن التجارب أثبتت أن حكم الشارع لا يطعم خبزاً، وقد يحقق تقدماً في مجالات محدودة ولن يتمكن من الوصول إلى الحكم.
الشعوب العربية عانت الأمرّين خلال قرن من الزمان بسبب الفقر والفساد وغياب الخدمات الرئيسية، ثم مع الاضطرابات والثورات لم تعد تحتمل المزيد من القهر والضياع وخيبات الأمل وديكتاتورية الشارع المتفلت، بعد أن انطبق عليها معنى المثل الشعبي القائل "من تحت الدلف إلى تحت المزراب"، فلا بد إذاً من الاستماع إلى صوت الشعب ولكن من غير المأمون ترك الحبل على غاربه، والتمادي في تعليق الأمل على حكم الشارع وتجاهل ضرورات الواقع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة