فرنسا والحكومة الجديدة.. هل تتغير الدبلوماسية؟

كتب البرلمان الفرنسي شهادة سقوط الحكومة الرابعة منذ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون، وبعدها بيومين انتفض الشارع ليفاقم الضغوط.
أزمات تضرب فرنسا في خريف يبدو عاصفا، لتجتمع في سياق زمني مكثف يفاقم المخاوف من ارتداداتها ليس على الأوضاع الداخلية فحسب، وإنما على السياسة الخارجية أيضا.
ويحذر خبراء في العلاقات الدولية بفرنسا من أن الاحتجاجات والإضرابات العارمة التي شهدتها البلاد أمس الأربعاء، وسقوط حكومة فرانسوا بايرو وتعيين سباستيان لوكورنو رئيساً للوزراء، لن تكون مجرد أزمة داخلية عابرة، بل محطة فارقة ستترك بصماتها بوضوح على الدبلوماسية.
ويرى هؤلاء، في قراءات منفصلة لـ"العين الإخبارية"، أن الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها فرنسا اليوم ستفرض على الحكومة الجديدة مواقف أكثر حساسية تجاه الملفات الدولية.
وتوقعوا أن يشمل ذلك بالخصوص لا سيما فيما يتعلق بـ«الاعتراف بالدولة الفلسطينية والحرب المستمرة في أوكرانيا»، حيث سيكون على لوكورنو أن يوازن بين ضغط الشارع المتصاعد والاستحقاقات الدبلوماسية الثقيلة لبلاده.
حمم
بحسب تقارير حديثة، فإن احتجاجات واسعة النطاق والإضرابات التي اكتسحت فرنسا، فضلاً عن سقوط حكومة بايرو نتيجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تضع البلد الأوروبي في موقف لا يمكن فيه فصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية؛ فالحكومات الديمقراطية تجبرها الضغوط الشعبية على أن تعكس مطالب الشارع في مواقفها الخارجية.
وفي قراءته للموضوع، يرى خبير العلاقات الدولية وأستاذ العلوم السياسية المتخصص في السياسة الخارجية بجامعة باريس-سيتي، فريديريك شاريلون، أن "الحكومة الفرنسية الجديدة التي تولت مقاليد الحكم ستكون مضطرة لإبراز مواقف أكثر حساسية تجاه القضايا التي تهم المواطنين".
وأشار شاريلون، في حديث لـ"العين الإخبارية"، إلى أنه من بين هذه القضايا: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث ثمة مطالب شعبية وإعلامية قوية لدعم صارم للقضية، إضافة إلى الضغط من الشارع من جهة المقاومة ضد التكلفة المعيشية المرتفعة التي تربطها بعض الفئات بالسياسات الخارجية المكلفة أو الغامضة".
رهان رمزي وسياسي
وأوضح شاريلون أنه منذ يوليو/تموز الماضي، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عزم فرنسا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقررة في وقت لاحق من الشهر الجاري.
وتابع: "هذا القرار، رغم طابعه الرمزي، لم يكن مفصولاً عن السياق الداخلي المتوتر، احتجاجات (فلنشل كل شيء) والإحساس بفشل الدولة في تلبية الاحتياجات الاجتماعية يضاعفان من مطالب التماهي مع القضايا الإنسانية، فالموقف من فلسطين يصبح اختباراً أخلاقياً وسياسياً للحكومة الجديدة".
من جهته، قال البرلماني الفرنسي السابق، وخبير العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس، بيير ليلوش من معهد العلاقات الدولية، لـ"العين الإخبارية"، إن قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية لباريس يدخل في إطار أكبر من مجرد خطوة دبلوماسية.
ويضيف ليلوش، لـ"العين الإخبارية"، أن الخطوة تشكل "جزءا من سعي باريس لاستعادة موضعها كقوة أخلاقية وسياسية في الشرق الأوسط، في وقت تسعى فيه للاستفادة من ميدان التضامن الدولي، بينما تحاول أن تخفف من تأثير الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي انتقدت القرار".
بين حلفاء أوكرانيا
بحسب ليلوش، فإنه "في سياق الحرب المستمرة في أوكرانيا، تقف فرنسا بمفترق طرق، فمن جهة، واجب التضامن مع أوكرانيا باعتبارها دولة تتعرض للهجوم؛ ومن جهة أخرى، الضغوط الداخلية التي تطالب بخفض الإنفاق الخارجي، وتركز الحكومة الجديدة، تحت قيادة لوكورنو، على إمكانية البحث في إعادة توزيع الأولويات".
ولفت إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الخارج الفرنسي هو كيف يحافظ على الالتزام بدعم أوكرانيا،عسكرياً ودبلوماسياً، في ظل ضائقة مالية وابتعاد شرائح واسعة من الشعب عن سياسات التعاون الدولي التي يعتبر البعض أنها تأتي على حساب متطلبات المعيشة.
سيناريوهات
أما بخصوص السيناريوهات المستقبلية، فيرى ليلوش أن سياسة لوكورنو الخارجية ستكون مأسسة المواقف الرمزية.
ويوضح أنه "من المحتمل أن يواصل لوكورنو تنفيذ قرار الاعتراف بفلسطين، محاولاً استثمار الرمزية لصورة فرنسا كمجتمع دولي عادل، لكنها ستكون محدودة في الإجراءات العملية حتى لا تسبب توترات دبلوماسية مكلفة".
وفيما يتعلق بضبط النفقات والدعم الخارجي، قال ليلوش:"قد يشهد عهد لوكورنو تقييداً أكبر للإنفاق العسكري أو المساعدات الخارجية، خاصة تلك التي تُعتبر أقل أولوية من الملفات الاجتماعية الداخلية".
وأشار إلى أن الحكومة الفرنسية الجديدة عليها الموازنة بين القوى، موضحاً أن فرنسا سيطلب منها أن تلعب دور الوسيط الأوربي بين الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي بشأن حرب أوكرانيا، مع احتمال تبني لهجة أقل تصعيداً تجاه موسكو، لكن دون التخلي عن التحالف الغربي.
ويعتقد البرلماني الفرنسي السابق أن باريس تقف اليوم أمام مفترق سياسي، فحكومة لوكورنو لا تملك ترف تأجيل الأزمات، وقدراتها الخارجية ستقيّم على أساس مدى تجاوبها مع مطالب الداخل.
و"في حال نجحت الحكومة الجديدة"، يقول، "في دمج التحديات الاجتماعية في سياسات خارجية ذات حس إنساني وأخلاقي، فربما تستعيد جزءاً من ثقة الشعب والدور الدولي الذي تطمح إليه".
وختم قائلا: "أما إن استمرت في التركيز على الإجراءات التقشفية دون مراعاة الضغوط الشعبية، فقد تواجه عزلة داخلية وخارجية، وتتعرض لمخاطر سياسية كبيرة خلال الانتخابات المقبلة".