السودان والمرحلة الانتقالية.. تجاوز إرث الإخوان التحدي الأكبر
الشعب السوداني انتصر على نظام حكم إخواني امتد ثلاثين عاما، تم فيها تجريف مؤسسات الدولة وأخونة كثير منها
انتصر الشعب السوداني على نظام حكم إخواني امتد 30 عاما، تم فيها تجريف مؤسسات الدولة وأخونة كثير منها، ونجح في الدخول إلى مرحلة انتقالية جديدة سيواجه فيها تحديات كثيرة من أجل بناء دولة القانون المدنية.
وقد أسقط الشعب السوداني حكم عمر البشير في شهر أبريل/نيسان الماضي، عقب ثورة شعبية دخلت في أعقابها البلاد في مصادمات واحتجاجات كثيرة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، انتهت بعد شد وجذب إلى توقيع اتفاق المرحلة الانتقالية يوم السبت الماضي، ثم أعقبه الإعلان عن حل المجلس العسكري، والتوافق على مجلس سيادي من 10 أشخاص؛ خمسة منهم من العسكريين، ومثلهم من المدنيين، ويرأسه في المرحلة الأولى الفريق عبد الفتاح البرهان.
إرث النظام الإخواني
سيرث النظام الجديد في السودان مؤسسات دولة ضعيفة، تم أخونة كثير منها وإضعاف بعضها الآخر، حتى طالت الجيش السوداني نفسه كمؤسسة صلبة تمثل عمود الخيمة داخل أي مجتمع.
ورغم ذلك نجح الجيش في الحفاظ على تماسكه، رغم التحديات التي واجهته، والخلافات التي جرت بين بعض قادته، بل حتى محاولات الانقلاب التي رتّبتها عناصر من النظام القديم على قيادات الجيش وعلى المسار السياسي الجديد.
والحقيقة أن أي حديث عن أن الحركة الإسلامية التي رتبت لانقلاب 1989 في السودان، ووضعت البشير على رأس الحكم، لا تنتمي تنظيميا إلى حركة الإخوان المسلمين هو حديث باطل، فالحركة صناعة إخوانية بامتياز، وكثير من قادتها كانوا جزءا من تنظيمها الدولي، وإن كل ما طبقه نظام البشير في السودان كان منهجا إخوانيا بامتياز، فلم يعترف باستقلال مؤسسات الدولة وحيادها تجاه الصراعات الحزبية، إنما أدخلها كطرف مباشر في الصراع السياسي، ولم يقبل بوجود سلطة قضائية وجيش وشرطة وجهاز إداري مستقل عن الحزب الإخواني الحاكم، إنما أجرى عملية تجريف وأخونة لكثير من هذه المؤسسات بضم عناصر إخوانية (كيزان بالتعبير السوداني) لهذه المؤسسات؛ بغرض السيطرة عليها وتوجيهها وفق خط النظام الحكام، وما سمي في ذلك الوقت بالمشروع الإسلامي.
ستبقى مهمة المجلس السيادي الذي بدأ في ممارسة مهامه، الأربعاء، ليست فقط مواجهة المشاكل الاقتصادية والسياسية المتراكمة، إنما أيضا إعادة بناء مؤسسات الدولة وضمان حيادها تجاه الحزب أو النظام الحاكم مهما كان توجهه أو لونه السياسي.
عناصر القوة
على خلاف تجارب أخرى من تجارب الانتفاضات العربية التي رفضت فيها القوى الثورية مبدأ التفاوض مع النظام القائم أو مع الخصوم السياسيين، مثلما جرى في مصر عقب ثورة يناير، فإن قوى الحرية والتغيير تبنت منذ اليوم الأول مبدأ التفاوض مع السلطة القائمة ممثلة في المجلس العسكري الانتقالي، وتمسكت في الوقت نفسه بضغط الشارع من أجل بناء نظام سياسي مدني بديل، وليس لصالح الفوضى والاستباحة وغياب البديل.
لقد كرست التجربة السودانية "التفاوض" كقيمة عليا تمسك بها جميع الفرقاء، مهما كانت درجة الخلافات بينهم.
كما مثّل غياب الإخوان من المشروع البديل للنظام القديم، عنصرا مساعدا في نجاح التجربة السودانية وبناء بديل مدني ديمقراطي.
ويمكن القول إن فرص نجاح أي مرحلة انتقالية لشعب ثار على نظام حكم إخواني أكبر بكثير من أي مرحلة انتقالية يدعي فيها الإخوان أنهم جزء من قوى الثورة والتغيير، فهنا ستكون فرص النجاح أصعب بكثير من التجربة الأولى، فقد أسقط السودانيون حكما اعتبره البعض في العالم العربي حلما (وهو في الحقيقة وهما) يسعون إليه، وأسموه بالحكم الإسلامي، وثبت بالدليل العملي أنه أسوأ من باقي النظم الاستبدادية.
ولعل خطاب ممثلي قوى الحرية والتغيير في حفل التوقيع على اتفاق المرحلة الانتقالية اتسم في مجمله بالعقلانية والعملية السياسية، وغابت مفردات المراهقة الثورية التي عانت منها تجارب تغيير أخرى في العالم العربي، وأدت إلى فشل مدوٍّ.
لقد خاطب ممثل قوى الحرية والتغيير المحيط العربي والأفريقي بعقلانية ورصانة شديدة، كما تبنى خطابا منفتحا نحو الداخل، ورفض تبني مشروع انتقامي يصفي فيه حساباته بشكل ثأري مع المعارضين ورموز النظام السابق، تحت حجج الشرعية الثورية وغيرها من المفردات التي يستدعيها البعض من متاحف التاريخ.
لقد تقدم السودان خطوة للأمام ووضع اللبنة الأولى في طريق طويل محفوف بالمخاطر لبناء دولة القانون المدنية الديمقراطية.
التحديات الكبرى
أهم تحدٍّ سيواجه السودان في الفترة المقبلة ليس فقط أزماته الاقتصادية، إنما الانقسام السياسي الذي من الوارد أن يطول الجميع مع طول المرحلة الانتقالية (يفترض أن تمتد وفق الإعلان الدستوري إلى 3 سنوات).
إن "تطويل" المرحلة الانتقالية سيفرض تحديات جديدة على المجلس السيادي المنقسم بين مدنيين وعسكريين، وبين فصائل وتيارات مدنية من قوى الحرية والتغيير، وإن التوافقات التي جرت من أجل التوقيع على الاتفاق من الوارد ألا تستمر حين يتحول الأمر إلى صراع نفوذ على السلطة.
يقينا، إن رأس السلطة الموزعة على 10 أشخاص في المجلس السيادي ستعاني من صعوبات في اتخاذ قرارات حاسمة، وستحتاج لمواءمات كثيرة حتى تستطيع أن تخرج قرارا سياسيا أو اقتصاديا كبيرا في بلد يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية عميقة، وأيضا من حروب وانقسامات عرقية وجهوية.
لقد اختارت قوى الحرية والتغيير الأصعب بتفضيل فترة انتقالية طويلة، حيث تكون السلطة غير منتخبة وغير مركزية، وغير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة، وهذا في حد ذاته يخلق مع الوقت تيارا متصاعدا في الشارع السوداني سيفقد الثقة بالمسار السياسي ويبدأ في البحث عن الرجل القوي أو رجل النظام العام الصارم والقادر على الإنجاز، ويكون بديلا عن انقسامات المرحلة الانتقالية المعطلة.
ورغم صعوبة المرحة الانتقالية والتحديات التي تثيرها، فإن فرص نجاح التجربة السودانية ما زالت كبيرة في بلد يتسم شعبه بالصبر، وبأنه سياسي ومدني بالفطرة، ولديه اعتزاز بكرامته رغم ظروفه الاقتصادية الصعبة، ولذا سيصبح هناك دور للأشقاء قبل الأجانب في مساعدته على الخروج من أزماته، ويطرح سيناريوهات ما بعد المرحلة الانتقالية.. ويبقى هذا حديثا آخر.
aXA6IDMuMTQ0LjkwLjIzNiA=
جزيرة ام اند امز