الحلقة النقاشية التي عقدتها "العين الإخبارية" طرحت تساؤلات حول آليات إدارة المرحلة الانتقالية في السودان
طرحت أعمال الحلقة النقاشية التي عقدتها "العين الإخبارية"، في 25 أبريل/نيسان الجاري، تساؤلات حول آليات إدارة المرحلة الانتقالية في السودان، وأفضل الخيارات التي تحول دون انزلاق البلاد نحو الفوضى، أو الدفع بقوى المعارضة التي لا تزال تطالب بتشكيل مجلس سيادي انتقالي مدني يقوم بتشكيل حكومة تكنوقراط لتسيير شؤون المرحلة الانتقالية.
وذلك بالتزامن مع تطورات المشهد السياسي السوداني سريعة الإيقاع منذ إعلان القوات المسلحة السودانية إسقاط نظام البشير وتشكيل مجلس عسكري يدير شؤون المرحلة الانتقالية في 11 أبريل/نسيان الجاري.
وقد شهدت الفعالية نقاشات عدة تمحورت حول خيارات التعامل مع التظاهرات الشعبية المستمرة حتى اللحظة الراهنة، فضلًا عن بلورة توصيات نحو الخروج من المأزق الحالي.
"توافق" قوى المعارضة و"تحديد الأولويات" أبرز متطلبات إدارة المرحلة الانتقالية
قال الدكتور أيمن شبانة، نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة، إنَّ النظام السوداني السابق لم يترك للسودانيين أي خيارات أخرى، فهذا النظام قد ارتكب على مدار العقود الثلاثة المنصرمة قدرًا كبيرًا من الممارسات الفاسدة التي أضعفت السلامة الإقليمية للدولة السودانية.
وأضاف شبانة أن هذا الوضع قاد إلى تأجيج النزعات الانفصالية في أقاليم سودانية عدة كولايات شرق وجنوب السودان، فضلًا عن انفصال الجنوب فعليًا في عام 2011.
وارتأى شبانة أن النظام السوداني لم يسقط بعد، وأن ما سقط هو رأس النظام فقط، ذلك لأنَّ النظام هو شبكة من المصالح لها جذور عميقة ومتغلغلة في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، وبالتالي على السودانيين أن يتوقعوا ثورة مضادة خاصة إذا فُرِض عزل سياسي بشكل سريع وغير مدروس على التيارات الدينية المتطرفة وقيادات النظام السابق، ولكن هذا لا يعني بأي حال السماح لعودة رموز هذا النظام لصدارة المشهد السياسي بل البحث عن صيغة "وسطى" تتعلق بمن كانوا في دائرة البشير ولم يتورطوا في انتهاكات حقوقية أو ممارسات تتعلق بـ"الفساد السياسي" أو استغلال السلطة السياسية لتحقيق مكاسب شخصية.
وفيما يتعلق بالسؤال المطروح حول إمكانية استجابة المجلس العسكري الانتقالي لمطالب التظاهرات الاحتجاجية، أوضح شبانة أن هذا الأمر رهين بعض العوامل، أبرزها استمرار تماسك الثوار وتحالفات قوى المعارضة المنضوية تحت إعلان الحرية والتغيير، وألا يُسْمح باختراق هذا الحراك الثوري من قِبل الأحزاب السياسية التقليدية التي لديها قواعد شعبية، بالإضافة إلى تطوير أساليب الاحتجاجات.
وأوضح شبانة أنَّه على القوى المتصدرة للمشهد السياسي في السودان البدء بالملفات والقضايا التي تحظى بالتوافق العام لتقليل الفجوة بينها وبناء الثقة بين المجلس العسكري الانتقالي من ناحية والقوى المعارضة من ناحية أخرى، وينبغي أيضًا بلورة أولويات المرحلة الانتقالية سواء كانت شكل نظام الحكم أو تعديل الدستور أو ترتيبات العملية الانتخابية أو الوضع الأمني للسودان.
وفي هذا السياق، أوضح حازم عمر، المدرس المساعد بكلية السياسة والاقتصاد بجامعة قناة السويس، أنَّ الحراك الشعبي السوداني أجَّجته جملة من العوامل المرتبطة بالفساد السياسي والمحسوبية وظروف الحرمان والتهميش على جميع المستويات السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ وهذا يتطلب فتح باب النقاش حول الأسباب التي تقود إلى إسقاط الأنظمة السياسية بشكل عام.
ويضيف عمر أنَّ السبب الرئيسي الذي دفع إلى إسقاط نظام البشير هو وجود حالة من الشعور العام بأنَّه قد حان الوقت للتغيير خاصة في ضوء انخفاض قدرة النظام السياسي على التكيف أو التعاطي مع التظاهرات الاحتجاجية بفاعلية وتهدئة غضبة الشعب السوداني.
وفيما يتصل بمستقبل السودان، أشار عمر إلى أنَّه ثمة حالة من الشك والريبة تعتري العلاقة بين المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير؛ وهذا قد يدفع السودان إلى مزيد من عدم الاستقرار خلال الأيام القادمة خاصة إذا أخفقت القوى السياسية المعارضة في الوصول إلى صيغة توافقية حول مطالبها.
وفي الاتجاه نفسه، ذهب الصحفي الإريتري محجوب حامد، إذ ارتأى أنَّ الحراك الشعبي السوداني قد حدث بطريقة عفوية نتيجة كثير من الظروف الضاغطة التي تعرَّض لها الشعب السوداني؛ ولذا ينبغي أنْ يحافظ الشعب على مكتسبات حراكه والحيلولة دون القفز عليها من قِبل أي تيار سياسي، وأنَّه ينبغي للقوى السياسية المتصدرة للمشهد السوداني الراهن أنْ تستفيد من أخطاء الماضي وتصحيح مسار العملية السياسية.
وأشار صلاح خليل، باحث سوداني بمركز الدراسات الاجتماعية والتاريخية بمؤسسة الأهرام، إلى أنَّ الحراك الشعبي، الذي قاده تجمع المهنيين السودانيين، قد بدأ بالمدن والأقاليم السودانية ثم انتقل للعاصمة الخرطوم، ومن ثم كان من الصعب على قوات الأمن السودانية إخمادها أو السيطرة عليها رغم الآليات التي دشَّنها نظام البشير لحماية نفسه من قبيل تأسيس ميليشيات الدعم السريع في عام 2011، بالإضافة إلى كتائب الظل التابعة للمؤتمر الوطني لمواجهة أي تيار معارض لبقائه.
انتكاس الفترة الانتقالية: المسارات وخيارات المواجهة
قال الدكتور أحمد أمل، مدرس العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، إنه إذا نظرنا إلى حالات مماثلة للحراك الشعبي السوداني الراهن شهدتها القارة الأفريقية في الفترة من 1990 حتى 1995 لوجدنا أنَّه كلما طالت الفترة الانتقالية زادت فرص الانتكاس، وبالتالي ليس من المنطقي أنْ تستمر المرحلة الانتقالية بالسودان لمدة أربع سنوات كما ورد في إعلان "الحرية والتغيير".
وأضاف أمل أن هذه الانتكاسة التي قد تُمْنى به المرحلة الانتقالية لها مساران، الأول أنْ يُبْدأ فعليًا في اتخاذ الإجراءات والقيام بترتيبات المرحلة الانتقالية ثم تفشل لأسباب سياسية "غير عنيفة" من قبيل مزايدة القوى السياسية على بعضها والفشل في الوصول إلى توافق حول الخطوط العريضة لإدارة المرحلة الانتقالية.
وأوضح أن هذا الانتكاس يمكن التغلب عليه من خلال طرح إجراءات المرحلة الانتقالية التي لم تبدأ بعد للاستفتاء الشعبي لإكسابها شرعية أصلية، وهذا الاستفتاء يكون على عدد من البنود العامة من قبيل الجهة التي ستدير البلاد بالمرحلة الانتقالية، ومدة هذه المرحلة.
أما المسار الثاني، فقال: "فهو انزلاق السودان للعنف.. صحيح أنَّ الحركات الانفصالية المسلحة أبدت الكثير من التعقل منذ بدء الاحتجاجات ولكن لا يمكن التعويل على هذا الأمر في الأجل المتوسط والبعيد، بالإضافة إلى بقايا المؤتمر الوطني التي تُعَد مكونًا أساسيًا من المكونات الاجتماعية للسودان، وقد تنزع إلى العنف في المرحلة المقبلة".
وأضاف: "ما يزيد الأمر خطورة هو المحيط الإقليمي المشتعل؛ إذ شهدت تشاد هذا العام حالة من العنف السياسي بين الرئيس والحركات الانفصالية في الشمال، وبالتالي المنطقة تشهد وضعًا غاية في الصعوبة والتعقيد، وهذا يجعل فرص الانزلاق إلى المسارات العنيفة كبيرة جدًا" بحسب رأيه.
واستمرارًا للحديث حول التحديات التي تواجه السودان في اللحظة الراهنة، ارتأى الصحفي السوداني سيبويه يوسف أنَّ السودان الآن يعيش في لحظة فارقة، فثمة جملة من التحديات التي تواجه الدولة خاصة في ظل سيرورة التظاهرات الاحتجاجية، وهي تحديات سياسية واقتصادية وأمنية، فالسودان لا يزال يشهد تردي الأوضاع الاقتصادية، فضلًا عن حالة السيولة الأمنية أخذًا في الاعتبار المحيط الإقليمي المضطرب، بالإضافة إلى المليشيات المسلحة وكتائب الظل التي لا تزال تدافع عن النظام البائد؛ الأمر الذي قد يفضي إلى الانزلاق للعنف.
وقد أوضح الصحفي الإريتري عبد الله علي أنَّ سقوط نظام البشير كان حتميًا بعدما انتهت صلاحية النظام وفقد شرعيته، مضيفًا أنَّ كل الأنظمة التي كانت تدعي بأنها "إسلامية" في المنطقة العربية سقطت، مشددا على ضرورة الحفاظ على المنظومتيْن الأمنية والدفاعية وتماسكهما للحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه، ولكن هذا لا يعني استمرار العناصر الموالية لنظام البشير في مواقعها القيادية.
ويقول عاطف إسماعيل، عضو بالحزب الشيوعي السوداني، إنَّ مدة المرحلة الانتقالية كما وردت في إعلان قوى الحرية والتغيير هي أربع سنوات، على أنْ تكون هناك مستويات ثلاثة للحكم تتمثَّل في المجلس السيادي الانتقالي المدني، وحكومة الكفاءات الانتقالية المدنية المستقلة، وبرلمان الشعب الانتقالي أو المجلس التشريعي الانتقالي.
وأشار إلى ضرورة أنْ يكون إسقاط النظام البائد وتفكيكه هدفًا ماثلًا أمام الحراك الشعبي؛ فنظام الإخوان الإرهابي قد اضطلع بأبشع الممارسات والانتهاكات بحق الشعب السوداني طوال فترة بقائه في السلطة، وكانت رسالته "التمكين" في مفاصل الدولة السودانية قاطبةً، ويُعَد احتواء بقايا النظام البائد وثورتهم المضادة أبرز تحديات المرحلة الانتقالية.
بدوره، لفت خالد العديسي، صحفي سوداني، إلى تحدي عودة بقايا النظام البائد، فتنظيم الإخوان وطوال العقود الثلاثة الماضية سعى إلى تمكين عناصره في كل مؤسسات الدولة السودانية. ليس هذا فحسب، بل إنها أيضًا عمدت إلى طمس ملامح الهوية السودانية.
وأضاف العديسي أنَّ المتابع لتظاهرات قوى الحرية والتغيير وفعاليات الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، يلاحظ بجلاء عودة القيم الإسلامية السمحة للمواطنين السودانيين لكن يبقى هناك تخوف كبير إزاء تسرُّب الفكر المتشدد خاصة أنَّ المحيط الإقليمي للسودان توجد فيه تنظيمات راديكالية تعتنق الفكر المتشدد في ليبيا والنيجر ونيجيريا وغيرها.
وقال العديسي إنه يبقى التعويل على الشباب السوداني في محاربة التطرف الديني ومجابهة الثورة المضادة لبقايا النظام؛ فالشباب السوداني قد قدَّم نموذجًا يحتذي به في الشجاعة والانتماء للوطن رافعين شعارات من بينها "الطلقة ما بتقتل، بقتل سكات الزول" في إشارة إلى تحديهم لنظام البشير والتمرد على كل القيم التي حاول هذا النظام غرسها في نفوس طيلة العقود الماضية.
نحو الخروج من المأزق الحالي: توصيات ختامية
اخْتُتمت أعمال الحلقة النقاشية بتقديم جملة من التوصيات نحو الخروج من المأزق الحالي والحيلولة دون الانزلاق للعنف والفوضى لعل في مقدمتها تشكيل حكومة تضم كفاءات مدنية "تكنوقراط" تضطلع بمهام إدارة المرحلة الانتقالية، وتشكيل لجنة من الخبراء الدستوريين لإجراء تعديلات عاجلة للدستور السوداني تُجْرى في إطاره انتخابات رئاسية، فضلًا عن ضرورة تحديد أولويات المرحلة الانتقالية بدقة ووضوح.
وطرحت الحلقة النقاشية جملة من التساؤلات أبرزها، هل ستكون الأولوية لتحديد شكل الحكم بإجراء تعديل دستوري يحدد على أي شاكلة سيكون عليها نظام حكم ما بعد إسقاط نظام البشير؟. أم أنه سيتم إيلاء الأولوية لإجراء انتخابات رئاسية ومن ثم تعديل الدستور أم أنَّ الأولوية ستكون للملف الأمني؟.
وطالبت الحلقة النقاشية ببذل الجهود لإعادة هيكلة المنظومتيْن الدفاعية والأمنية دون تفكيكهما، وإعادة هيكلة الجهاز الأمني والقوات المسلحة تقتضي الإطاحة بالعناصر الموالية للنظام البائد، والتي تحتل المناصب القيادية العليا، ويثبت تورطها في ارتكاب انتهاكات حقوقية أو أي ممارسات فاسدة أضرَّت بالشعب السوداني.
وانتهت الحلقة النقاشية إلى اعتبار أنَّ الخطوة الأولى على طريق الخروج من المأزق الحالي تتمثَّل في وحدة الصف وتوافق رؤى القوى السياسية المعارضة، والحذر كل الحذر من محاولات بقايا نظام البشير لشق تلك الوحدة أو القفز على الحراك الشعبي.