السودان بين الغيوم والصحو.. نزاع وأزمة وهدنة
ألسنة اللهب والدخان تغطي سماء الخرطوم فيما يحلق الطيران العسكري بكثافة في محاولة مستميتة لتحقيق مكاسب ميدانية قبل الهدنة.
هكذا بدت سماء العاصمة السودانية، اليوم الجمعة، متدثرة بعباءة "غيوم" تستعد لصحو مع بشرى إعلان هدنة لمدة يوم اقترحتها الوساطة، وتدخل حيز التنفيذ اعتبارا من غد السبت.
وظُهر الجمعة، أعلنت السعودية والولايات المتحدة الأمريكية عن توصل ممثلي الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" إلى اتفاق وقف إطلاق نار جديد، يدخل حيز التنفيذ غدا.
ويسري اتفاق وقف إطلاق النار، وفق بيان مشترك نشرته الخارجية السعودية، في كافة أنحاء السودان، ويستمر ٢٤ ساعة، على أن يبدأ الساعة السادسة من صباح الغد بتوقيت الخرطوم.
وبحسب الوزارة، فإن الطرفين سيلتزمان بموجب هذا الاتفاق بوقف الهجمات والقصف المدفعي والجوي، وعدم استخدام الطائرات المسيرة، وتحريك القوات وإعادة تمركزها وإمدادها، وعدم السعي للحصول على ميزة عسكرية أثناء فترة وقف إطلاق النار.
وسبق هدنة الغد اتفاقات كثيرة لوقف النار لكنها لم تصمد، فيما يتبادل الطرفان السودانيان اتهامات ببدء القتال أولا وارتكاب خروقات خلال سلسلة من الهدنات لم تفلح في وضع نهاية للاشتباكات المستمرة منذ 15 أبريل/نيسان الماضي.
قبل الهدنة
شهود عيان أفادوا لـ"العين الإخبارية" أن الاشتباكات العنيفة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" اندلعت اليوم في الخرطوم ومدن أم درمان (غرب) وبحري (شمال)، ما أدى لتعقيد الأوضاع الإنسانية.
وطبقا للشهود، فإن ألسنة اللهب والدخان تصاعدت في السماء بسبب القصف المدفعي العنيف ما أدى لتدمير منازل في أحياء العاصمة.
فيما استهدف الطيران العسكري تمركز قوات "الدعم السريع" بمدينة بحري ما أدى لتدمير مسجد بحي "الصافية" بالمدينة، وفق المصادر نفسها.
وتشهد مدن دارفور (غرب) والأبيض (وسط) معارك شرسة ما أدى إلى انهيار الخدمات المتردية أساسا.
وحسب نقابة أطباء السودان (غير حكومية) تتعرض مدينة الأبيض مركز ولاية شمال كردفان لحصار بقوات عسكرية من كل الجهات، وترتب على ذلك تدهور الوضع المعيشي والصحي لسكان المدينة.
وأوضح بيان النقابة أن معظم المواد التموينية خاصة الدقيق على وشك النفاد من الأسواق، وهذا سيقود إلى كارثة غذائية وشيكة إذا لم يتم إيصال المواد الغذائية، وسرقة مباني منظمة الغذاء العالمي، حيث نهبت مخازن الأمن الغذائي وثلاثة عربات تابعة للمنظمة وعربة وقود.
وأشار البيان إلى انقطاع الكهرباء عن المدينة لفترة تجاوزت الأسبوعين، وحـاول المهندسون ورجال الإدارة الأهلية الوصول لمحطة الكهرباء ولكن تم الاعتداء عليهم ونهبهم، كما تعاني المدينة من انقطاع المياه لأكثر من شهر وشح في الوقود.
وأضاف: "حصار المدينة أثر أيضا على الخدمات الصحية والكوادر الطبية وحركتها وتوصيل المعونات، ما أدى إلى تدهور الخدمة الصحية المقدمة في المستشفيات والمرافق الصحية في المدينة، ونقص حاد في الأدوية حتى على مستوى الصيدليات التجارية".
أزمة
الأزمة بين الجيش السوداني والأمم المتحدة وصلت ذروتها، إذ أخطرت وزارة الخارجية السودانية، مساء الخميس، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن ممثله في البلاد ورئيس بعثة "يونيتامس" فولكر بيرتس "شخص غير مرغوب فيه".
وذكرت الوزارة في بيان: "تود وزارة الخارجية الإفادة بأن حكومة جمهورية السودان قد أخطرت الأمين العام للأمم المتحدة رسميا، الخميس، بإعلام فولكر بيرتس، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة يونيتامس (بعثة الأمم المتكاملة لدعم الانتقال في السودان) شخصا غير مرغوب فيه، وذلك من تاريخ اليوم".
وفي 26 مايو/أيار الماضي طلب رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ترشيح بديل لرئيس البعثة الأممية "يونيتامس" فولكر بيرتس.
وفي يونيو/حزيران 2020، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بإنشاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان "يونيتامس"، استجابة لطلب حكومة الخرطوم آنذاك.
وأنشئت بعثة الأمم المتحدة بناء على طلب السودان وفقا لقرار مجلس الأمن 2524، وأوكلت إليها 4 مهامن هي مساعدة الانتقال السياسي نحو الحكم الديمقراطي، ودعم عمليات السلام وتطبيقها، وبناء السلام وحماية المدنيين في المناطق المتأثرة بالحرب، علاوة على إسناد مجهودات حشد الدعم الدولي التنموي والإنساني للسودان.
وبالنسبة للكاتب والمحلل السياسي أمير بابكر فإنه "ليس أمام حكومة السودان أن ترفض من يكلفه الأمين العام للأمم المتحدة ممثلا له في السودان، ففولكر لا يمثل شخصه وإنما سياسة وتوجهات المنظمة الدولية".
ويقول بابكر، في حديثه لـ"العين الإخبارية"، إن "حكومة السودان إن كانت جادة عليها أن تطلب إلغاء البعثة جملة وتفصيلا، ولكنها تدرك عواقب هذه الخطوة التي يمكن أن تدخلها في ورطة أكبر، لذلك هي تحاول إثارة موضوع فولكر في محاولة منها ربما إرضاء أطراف داخلية وإحراز كسب معنوي".
تعقيد
من جهته يقول المحلل السياسي محمد الأسباط إن "بيان وزارة الخارجية الذي حمل إخطارا باعتبار بيرتس شخصا غير مرغوب فيه، يعني أن قائد الجيش السوداني قرر الدخول في مواجهة مع الأمانة العامة للأمم المتحدة وفتح جبهة دولية ربما تزيد المشهد السوداني تعقيدا على التعقيد الذي هو عليه".
وأشار الأسباط، في حديثه لـ"العين الإخبارية"، إلى أنه "كما هو معلوم أن مجلس الأمن جدد الثقة بالبعثة الدولية لـ6 أشهر جديدة، وبالتالي من الصعوبة بمكان استقبال المبعوث الأممي خلال الأشهر الستة".
وتابع: "وكما هو معلوم فإن اختيار الممثل الخاص يخضع لمشاورات وترشيحات تعقبه قائمة قصيرة ومن ثم يتم الاتفاق على ممثل ويتم عرضه على حكومة السودان، وقد توافق عليه أو لا توافق عليه وإذا لم توافق عليه تعاد العملية مرة أخرى، وعادة تأخذ هذه العملية وقتا طويلا".
وأردف: "لا أعتقد أن هذه الخطوة ذات فائدة بالنسبة للسودان في ظل ظروف الحرب وهو يحتاج إلى حضور قوي في الأمم المتحدة، خاصة أن الظروف الإنسانية تزداد سوءا، ولكن لا أعتقد أن الأمم المتحدة ستتوقف كثيرا عند هذا القرار وستواصل أداء مهامها في إيصال المساعدات الإنسانية والعمل الدبلوماسي من أجل إيقاف الحرب".
أما المحلل السياسي محمد المختار فيرى أن "طرد فولكر ظل مطلبا لفلول النظام السابق والحركة الإسلامية في السودان حتى قبل اندلاع الحرب، خاصة بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الثاني الذي أعادهم إلى مؤسسات الدولة، وأعاد لهم الكثير من الأموال التي تمت مصادرتها عبر لجنة إزالة وتفكيك نظام الـ30 من يونيو 1989 (نظام الرئيس المعزول عمر البشير)".
وبالتالي، يتابع الخبير، فإن "هذا الأمر يقرأ في هذا السياق في ظل هذا الوضع المعقد جدا بأنهم يستغلون مؤسسات الدولة ويمررون بها أجندتهم ويقرأ كذلك في سياق إشعالهم لهذه الحرب منذ البداية ورفضهم أي هدنة وأي محاولات لوقف إطلاق نار دائم وتعقيد المشهد ودفعه إلى وضع أسوأ".
وحذر من أن "الخطوة تقرأ في سياق تأزيم الموقف بشكل أكبر والهروب إلى الأمام وإطالة أمد الحرب، وستجد إدانة من دول كثيرة جدا".