السودان.. في أهمية البعد عن النظام البرلماني
انقلابات الجيش في السودان جاءت على نظم برلمانية وعلى رئيس وزراء يحكم بتفويض من برلمان سئم معه الناس بعد فترة من ضجيج الأحزاب
أعطى التأخر في تشكيل الحكومة السودانية مؤشرا على حجم الصعوبات التي تواجه تركيبة انتقالية تتوزع فيها سلطة القرار بين مجلس سيادي مكون من 11 شخصا مع رئيس حكومة، وهو يعتبر "بروفة" حية لجانب من الصعوبات والأزمات الكثيرة في حال ذهب السودان كما يطالب البعض نحو نظام برلماني تحكمه أحزاب ضعيفة ومنقسمة وتعتمد في أغلبها على قواعد تقليدية، ويفتح الباب أمام انهيار التجربة السياسية برمتها.
- الحكومة السودانية تستهل أول اجتماعاتها بـ10 أولويات
- السيادي السوداني لـ"العين الإخبارية": التفاوض المباشر مع الحركات المسلحة 14 أكتوبر
واقع السودان الاجتماعي والسياسي يحتاج إلى نظام رئاسي ديمقراطي، يختلف عن النظام الذي ساد طوال ثلاثين عاما، وأيضا عن النظم البرلمانية الناجحة في بعض بلاد الرفاهة الأوروبية، مع ملاحظة أن كل دول الجنوب التي انتقلت نحو الديمقراطية من أمريكا الجنوبية إلى أفريقيا تبنت جميعها نظاما رئاسيا.
لماذا النظام الرئاسي؟
لماذا النظام الرئاسي الديمقراطي أفضل للسودان؟ لأن النظام الرئاسي يعطي صلاحيات حقيقية لرأس السلطة التنفيذية تجعله قادرا على مواجهة مشاكل الحروب الداخلية والانقسام المناطقي والسياسي والأزمات الاقتصادية بصورة أكبر من رئيس وزراء يأتي نتيجة توازنات بين الأحزاب، ومواءمات بين الطبقة السياسية ولا يستطيع أن يتخذ قرارا كبيرا ولو كان صحيحا لأنه خاضع لمواءمات مع الأحزاب والبرلمان، ويصبح الخوف اليومي من سحب الثقة هاجسا لكل رئيس وزراء في الدول النامية، وليس الإنجاز والتنمية وبناء دولة القانون.
ولعل انقلابات الجيش في السودان جاءت على نظم برلمانية وعلى رئيس وزراء يحكم بتفويض من برلمان سئم منه الناس بعد فترة من ضجيج الأحزاب الذي بلا طحن ومعارك النخب السياسية حتى تقبل بعضها تدخلات الجيش من أجل التخلص من الانقسام السياسي والحزبي.
والحقيقة أن النظام الرئاسي الذي اختارته كل الدول النامية كان عنصر استقرار ونجاح ولو نسبيا فدول أمريكا الجنوبية جميعها بلا استثناء تبنت النظام الرئاسي الديمقراطي وتحولت إلى دول مدنية بعد فترة طويلة من الحكم العسكري وحتى البرازيل حين انتخبت رئيسا للجمهورية من خلفية عسكرية كان عبر آلية ديمقراطية وليس عبر انقلاب.
يقينا رئيس الجمهورية متحرر من هذه المواءمات لأنه منتخب ومفوض لمدة خمس سنوات ويمكن عزله بالطبع لو ارتكب جرائم كبرى كما هو منصوص عليه في كل الدساتير لا بسبب أنه أغضب حزبا من عدم تمثيله بعدد كاف من الوزراء، أو قلل من محاصصة حزب آخر كما يجري في النظم البرلمانية.
إن النظام الرئاسي قادر على أن يدمج بين رجال الأحزاب والكوادر غير الحزبية سواء التي عملت بكفاءة واستقلالية داخل الجهاز الإداري للدولة أو من هاجرت خارج الحدود (كرئيس الحكومة) ، وبين كوادر الأحزاب السياسية، في حين أن النظام البرلماني سيعتمد فقط على رجال الأحزاب وحوارييهم وسيبني نظاما هشا وضعيفا سيفتح الطريق أمام "المخلص" أو المستبد العادل وهو كان حلا متكررا في السودان ارتدى أحيانا ثوب المخلص القومي أو الإسلامي وكانت النتيجة قتل الديمقراطية في مهدها وعدم تجذرها داخل المجتمع جريا وراء وهم اسمه أن النظام البرلماني أكثر ضمانة للديمقراطية من النظام الرئاسي.
خطر النظام البرلماني أو المختلط
يتصور البعض أن النظام البديل للنظم الرئاسية الاستبدادية والنظم البرلمانية الفوضوية، هو نظام مختلط وينسى أو يتناسى أن أسوء النظم السياسية هي تلك التي تفترض أن النظام الأمثل هو الذي يأخذ من كل نظام زهرة أو قطعة ويصنع خلطته غير السحرية التي تكون أقرب إلى المصطلح المصري الشهير "سمك لبن تمر هندي"، فتخلق نظاما عاجزا عن الإنجاز والعمل.
نظريا لا يوجد نظام مختلط إنما نظام أقرب للبرلماني أو الرئاسي حتى لو وضعنا قبلهما كلمة مختلط، فلابد أن يكون للنظام هوية محددة وتعبير "برلماسي" هو اختراع ردده البعض في مصر ويجب عدم نقله للسودان، كما أن جزءا من مشاكل النظام السياسي التونسي هو الصلاحيات المنقوصة لرئيس الجمهورية رغم أنه منتخب من الشعب.
صحيح هناك خوف من مرارات النظم السابقة التي ادعت أنها رئاسية وكانت نظم استبدادية بامتياز، فتصور البعض أن الحل في القضاء على صلاحيات رئيس الجمهورية أو حل مشكلة الرئيس المستبد يكون باقتسام السلطات بينه وبين رئيس الوزراء، وهو أمر غير موجود في فرنسا مثلا التي بها نظام شبه رئاسي، فرأس السلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية وليس رئيس الوزراء، لأن فلسفة النظام الرئاسي لا تقوم على إضعاف السلطة التنفيذية وانقسامها بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء إنما في التوازن بين السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، والحفاظ على صلاحيات الرئيس وقدرته على الفعل والحركة ومسائلته أيضا.
النظام الرئاسي أفضل للسودان
على النخب المدنية السودانية ألا تخشى من النظام الرئاسي الديمقراطي، إنما تخشى أكثر من لا نظام ولا دولة وتلفيق نظام لا يعمل ولا يتحرك خطوة واحدة للأمام.
والحقيقة أن فلسفة أي نظام سياسي تكمن في قدرتها على فرض نصوصها (أو معظمها) على أرض الواقع لا أن تغرد في الهواء الطلق بشكل منفصل تماما عنه وهو ما يؤدي إلى تعثر النظام السياسي برمته ودفع فاعلين من خارجه للتدخل المباشر في العملية السياسية في محاولة لوقف الشلل والانهيار الذي أصابه.
والحقيقة أن السودان في حاجة إلى نظام شبه رئاسي وهو نوع من النظم الرئاسية الفارق الرئيسي بينه وبين النظام الرئاسي الكامل أن به رئيس وزراء يعينه الرئيس بشرط موافقة البرلمان كما هو الحال في فرنسا ولا يوجد نائب للرئيس كما في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من النظم الرئاسية الذي ينتخب مع الرئيس بشكل مباشر من الشعب.
والمؤكد أن البلاد العربية اعتادت على وجود رئيس وزراء، وإن كان عرف في الفترة السابقة بأنه "سكرتير للرئيس" فإنه من المهم الآن تفعيل دوره ليأخذ جزءا من صلاحيات الرئيس في الإدارة الداخلية على أن يبقى الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية وصاحب السلطة الأكبر وخاصة في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية وله حق الفيتو داخل النظام السياسي في حال اختلف السياسيون وقادة الأحزاب.
والحقيقة أن البعض تصور أن مواجهة الاستبداد يعني تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو أمر يعكس عدم معرفة كاملة بأبسط قواعد عمل النظم السياسية، ففلسفة النظام الرئاسي وشبه الرئاسي تقوم على إعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية (غير مطلقة) يقابلها ثلاثة ضمانات رئيسية تمثل حائط صد أمام انحرافه بالسلطة: الأول الفصل الصارم بين السلطات، والثاني عدم تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات: التشريعية والقضائية كما جرى في عهد البشير، والثالث عدم السماح بتجديد مدة الرئاسة أكثر من مدتين غير قابلتين للتمديد تحت أي ظرف ويفضل أن تكون كل مدة 5 سنوات.
أما إذا قرر السودانيون تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية فهذا يعني بكل وضوح ضرورة انتخاب الرئيس من البرلمان وليس من الشعب لأنه حين ينتخب من الشعب فنحن بالضرورة أمام نظام رئاسي كما في كل الدنيا، وحين ينتخب من البرلمان فنحن أمام نظام مختلط أقرب للبرلماني.
النظام البرلماني والمختلط خطر على السودان لأنه سيفتح الباب أمام نظام غير فاعل وغير منجز فيه كثير من الكلام وقليل من العمل وهو ما سيفتح الباب أمام تقويض التجربة الوليدة كما جرى من قبل.
aXA6IDE4LjExNy43MC42NCA= جزيرة ام اند امز