السودان ومحنة الجماعات المتطرفة.. بذرة إخوانية فاسدة أنبتت خرابا
قد يغفر السودانيون للسياسيين فشلهم، وقد يعفون عن المقصرين، لكنهم لن يسامحوا عناصر الإخوان (الجماعة المصنفة إرهابية في دول عدة) على ما ارتكبوه في حق الدولة والمجتمع السوداني.
فجرائمهم الحالية بتأجيج نار الفتنة وإشعال الاقتتال وتهجير السودانيين، وجرائمهم السابقة بتحويل السودان إلى بؤرة إرهاب عالمي وتغيير المزاج السوداني المثقف والمتسامح إلى تقبل فكر الإرهاب والانخراط فيه، لن ينساها التاريخ.
- احتدام القتال بالخرطوم.. تبرؤ من الإخوان وبصيص أمل يلوح في الأفق
- فتنة "عبدالحي" بالسودان.. الإخوان تمارس اللعبة القديمة
بداية الإرهاب
لم يعرف المجتمع السوداني أفكار ما يسمى "السلفية الجهادية"، والإرهاب والتطرف والتكفير والقتل على الهوية، إلا بعد تولي الإخوان الحكم في يونيو/حزيران 1989.
جاء ذلك عندما تولى العميد في الجيش السوداني، عمر البشير، السلطة إثر انقلاب إخواني أطاح بالحكومة المدنية المنتخبة، وأسس لبداية "حكم الكيزان" الذين حولوا مجتمع السودان المعروف بتسامحه الشديد وتصوفه العميق، إلى رقم مهم في عالم الإرهاب والتطرف.
وكعادة تنظيم الإخوان، أصل الجماعات الإرهابية في العالم، بمجرد أن تمكن من الاستيلاء على مؤسسات الدولة، استقدم الجماعات الإرهابية والمتطرفة للتمركز في السودان بزعم أنها دولة المستضعفين.
تسبب هذا الإجراء المتهور، في صدور 63 قرارا من مجلس الأمن الدولي حول السودان خلال فترة "حكم التنظيم" معظمها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفي النهاية تحولت السودان لدولة "راعية للإرهاب"، ودفع الشعب الثمن.
"القاعدة" في ضيافة الإخوان
عقب نجاح الانقلاب الإخواني والاعتراف به دوليا، كشف "حسن الترابي" المراقب العام الأسبق للإخوان والمخطط الفعلي للانقلاب عن تبعية رئيس الدولة العميد عمر البشير لتنظيمه الإخواني.
وظهر جليًا للشعب أنه انقلاب إخواني صرف واعتبروا "الجبهة الإسلامية القومية" و"تنظيم الإخوان" وجهين لعملة واحدة، كما بدى واضحًا للجميع أن "الترابي هو المتحكم في أمور الدولة وله اليد العليا".
وفي سبيل تدعيم الحكم الإخواني، دعا الترابي زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" إلى التمركز في السودان عام 1989، لكن بن لادن لم يستجب لتلك الدعوة إلا بعد خلافاته مع السعودية، وصعوبة تمركزه في أفغانستان نظرًا لصعود "طالبان" كقوة عسكرية واستولت على الحكم في أفغانستان من حلفاءه السابقين، فانتقل إلى الخرطوم عام 1991، وسط ترحيب إخواني واضح.
خسائر اقتصادية بالجملة
في البداية رحب الإخوان بـ"بن لادن" عام 1991 بزعم إنعاش الاقتصاد السوداني، ثم طردوه منها عام 1996، وما بين التاريخين تسبب الإخوان في خسائر سياسية واجتماعية واقتصادية، أكبر بكثير من ملايين بن لادن التي استولوا عليها.
وتسببوا في خسارة تقترب من 500 مليار دولار بسبب إدراج السودان كدولة راعية للإرهاب حسب تصريح سابق لـ"البشير".
فبأموال "بن لادن" تم تأسيس عدد من الشركات والمؤسسات تجارية في السودان، مثل "شركة بن لادن العالمية"، وهي متخصصة في الاستيراد والتصدير، وشركة "وادي العقيق"، وهي شركة قابضة عملت في مجال المقاولات نفذت العديد من المشاريع من بينها طريق التحدي من الخرطوم إلى بورتسودان، وإقامة المزارع الكبيرة مثل مزرعة الدمازين، لكنهم طردوه في النهاية.
انتهازية الإخوان تدمر السودان
لم يكن هدف الإخوان من حضور بن لادن وتنظيم القاعدة التربح أو مساعدة التجارة فقط، فقد دعوه والكثير من المطرودين في بلادهم فتوافد إليها عناصر من جماعة الجهاد الإسلامي المصرية، وبعض من الفارين من التنظيمات المتطرفة لدول الجوار مثل ليبيا وتونس وإريتريا.
كما حضر إلى الخرطوم أيضا عناصر من الحرس الثوري الإيراني وبعض من حزب الله، حتى الإرهابي الدولي الفنزويلي " لييتش راميريز سانشيز" المعروف باسمه الحركي "كارلوس" وجد المأوى في الخرطوم في عهد الإخوان.
وتحولت الدولة السودانية إلى وعاء ومحزن كبير للمسلحين والإرهابيين والمتطرفين حول العالم.
وبحسب المراقبين فقد بدا واضحا أن الترابي أراد أن يقود الحركة الإسلامية المسلحة عالميًا، أو على الأقل أراد أن تكون هذه الجماعات أوراق للضغط تحت يده يستخدمها في ابتزاز الحكومات العربية للحصول على مكاسب مالية أكبر.
أو استخدامها للتفاوض مع الحكومات الغربية لتسليمهم إليها إذا استدعى الأمر، مثلما سلموا "كارلوس" عام 1994، ومثلما عرضوا تسليم بن لادن نفسه إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1996.
خسائر سياسية
وتسببت سياسة الإخوان والترابي الداعمة للإرهاب في العالم، بإدراج السودان كدولة راعية للإرهاب عام 1993، فخسر دعم الدول المحيطة به وعمقه العربي والأفريقي.
كما خسر دعم الدولة المصرية ذات العلاقة المتميزة بالسودان بعد تورط نائب الرئيس السوداني الإخواني "علي عثمان محمد طه" في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق "حسني مبارك" في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995، وذلك باعتراف الترابي نفسه.
أكبر خسارة
فيما تعد الخسارة الأكبر "اجتماعيًة"، ببدء انتشار الأفكار التكفيرية في المجتمع، بعد دعوة الإخوان لكل الجماعات المتطرفة للتمركز في السودان.
وتحول المجتمع السوداني من مجتمع التسامح إلى معسكر كبير للتدريب على العمليات الإرهابية في العالم العربي والإسلامي والأفريقي.
فعقب استقرار بن لادن في الخرطوم بدأ توافد أعضاء تنظيم القاعدة وتم إيواؤهم في مزارع سواء مزرعة جنوب الخرطوم أو مزرعته في بورتسودان وتدريبهم على القتال فيها.
ومع تداخل الإرهابيين مع الحكومة الإخوانية السودانية ومع المجتمع ذاته، انتشرت أفكار وكتب التكفيريين في مساجد السودان وبين شبابه، وانضم عدد لا بأس به من السودانيين إلى القاعدة.
وتحولت تنظيمات بعينها إلى الفكر الجهادي التكفيري، مثل جماعة المراقب العام للإخوان "سليمان أبو نارو" التي تحولت إلى "جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة" عام 1991.
وظهر تيار "الأمة الواحدة" على يد محمد علي الجزولي بهدف توحيد الجماعات الإسلامية وتكوين ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية"، ولو بالقوة، وبوجود هؤلاء تلاشت روح التسامح والتصوف العميق بشكل كبير، وظهر التوحش والتكفير البغيض.
كما شهد السودان أول عملية إرهابية مسلحة على أراضيه، ففي عام 1997، فتح الإرهابي محمد عبدالرحمن الخليفي، سلاحه الآلي على المصلين في مسجد أنصار السنة المحمدية، بزعم أنهم "عملاء".
ليس هذا فحسب بل هناك أدلة تؤكد أن تفجيرات السفارات الأمريكية في نيروبي بكينيا، ودار السلام في تنزانيا عام 1998 تم التخطيط لها والتدريب عليها في السودان، وأن الهجوم على المدمرة كول قرب ميناء عدن اليمني عام 2000، كان نتيجة للدعم الذي قدمته السودان للقاعدة.