هناك أيّام تمرّ على الأمم كما تمرّ الرياح على الرمال، لا تترك أثراً. وهناك أيّام تُكتب بحبر الدم والرجاء، تُنقش في ذاكرة الشعوب باعتبارها لحظات فاصلة بين الانكسار والانبعاث.
والأسبوع الذي نعيشه اليوم هو أسبوع انتصارٍ معنوي لشعبٍ أرهقته الحرب التي أشعلتها الحركة الإسلامية السودانية (الإخوان)، أو كما يُعرفون شعبيّاً في السودان بـ”الكيزان”، فجاء شاهداً على أن إرادة الشعوب لا تموت، وأن مسار التاريخ لا يكتبه الطغاة.
في يوم الجمعة 12 ديسمبر/كانون الأول، التقى الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء حكومة الشعب التي انقلب عليها العسكر/الكيزان، ورئيس التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود)، برئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، محمود علي يوسف، في أبوظبي.
اللقاء لم يكن عادياً؛ فالرجل الذي طالما اتُّهم بالانحياز إلى سلطة بورتسودان أعلن هذه المرة أن الحرب ليست حلاً، مؤكداً التزام الاتحاد الأفريقي بدعم عملية سياسية حقيقية تفضي إلى السلام والاستقرار. بدا وكأن صوت الثورة السودانية قد اخترق جدار الصمت الإقليمي، واضعاً أسساً جديدة لمسار سياسي يعترف أولاً بضحايا الحرب، ثم يفتح أفقاً لسلام عادل.
وفي اليوم نفسه، جدد مجلس الأمن بالإجماع العقوبات على السودان عبر القرار (2791)، مانحاً نفسه عاماً إضافياً حتى سبتمبر 2026. القرار لم يكن مجرد إجراء روتيني، بل تأكيداً أن العالم لا يزال يرى الخراب الذي أحدثته الحرب، وأن سيف العقوبات - من حظر الأسلحة إلى تجميد الأصول وحظر السفر - سيظل مرفوعاً فوق رؤوس أمراء الدم حتى تنطفئ نيرانهم.
ثم جاء القرار الأكثر دوياً من واشنطن؛ إذ فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على جبريل إبراهيم، وزير مالية سلطة بورتسودان، وعلى كتيبة البراء بن مالك، إحدى أعتى كتائب الحركة الإسلامية وأكثرها وحشية.
العقوبات هذه المرة لم تكن مجرد أرقام على الورق، بل إعلاناً صارخاً بأن لا حصانة بعد اليوم للفاسدين ومشعلي الحروب، وأن حلفاء إيران وحرسها الثوري لن يجدوا مكاناً آمناً.
لقد فتحت هذه الخطوة نافذة ضوء وسط العتمة، تهمس في أذن السودانيين بأن العدالة قد تتأخر لكنها لا تغيب.
ولم يكتمل المشهد إلا حين اجتمعت الرباعية (الولايات المتحدة، والإمارات، والسعودية، ومصر)، لتعلن ملامح خارطة طريق جديدة: هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، يليها وقف دائم لإطلاق النار، ثم عملية انتقالية تقود إلى حكم مدني.
لكن الأهم من التفاصيل الزمنية كان المبدأ الحاسم: لا مكان للجماعات المتطرفة والعنيفة، ولا عودة للإخوان المسلمين (الكيزان) إلى المشهد السياسي. كانت تلك إشارة قاطعة بأن المجتمعين الدولي والإقليمي حسما أمرهما: لا مصالحة مع من أشعل الحرب، ولا دور لمن تاجر بدماء السودانيين.
لقد ألقى بيان الرباعية حجراً في بركة الأزمة السودانية، فحرّك مياهها الراكدة، ووجّه الأنظار إلى أولوية الأولويات: الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم. فالخرائط الإنسانية لا تُرسم بالمدافع، بل بممرات آمنة للغذاء والدواء، وهذا ما اقترحه البيان وأكدت عليه القوى المدنية، التي رأت فيه بارقة أمل وسط الخراب.
وفي المقابل، بدا معسكر بورتسودان مرتبكاً، فاكتفى ببيانات جوفاء عن “السيادة” و”الشرعية”، دون أن يجرؤ على مواجهة الحقيقة: أن الحرب التي يديرونها ليست سوى معركة خاسرة ضد شعب يطلب السلام.
لقد كان هذا الأسبوع تجسيداً لمعادلة جديدة: قوى مدنية راسخة في رفضها للحرب، مجتمع دولي يستعيد زمام المبادرة، وحركة إسلامية فقدت آخر أوراقها بعد أن عراها الواقع وكشف زيفها ودمويتها.
السودانيون يعيشون لحظة فارقة، تعلن أن السودان رغم جراحه، لا يزال قادراً على الانتصار. وما كان لكل هذه الخطوات أن ترى النور لولا وقفة المجتمعين الدولي والإقليمي، وفي طليعتهما دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، التي أثبتت قيادةً وحكومةً وشعباً أنها سندٌ وفيّ للشعب السوداني في محنته، وركناً ثابتاً في معركة استعادة الأمن والسلام والحرية والكرامة.
إنها ليست نهاية المأساة بعد، لكنها بداية الخروج من الرماد نحو وطن يشرق في أفق الحرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة