تابعت المسيرة اليمينية المتجاوزة المئة ألف شخصا في العاصمة البريطانية لندن تحت تنظيم الناشط اليميني المتطرف "تومي روبنسون"، والتي زاد نارها حطبًا اغتيال تشارلي كيرك في الولايات المتحدة.
فكانت أكبر مظاهرة يمينية تشهدها لندن، حيث هناك الاشتباكات والاعتداءات بين اليسار واليمين وصولاً إلى الشرطة، جنح فكري وذاكرتي إلى تجربة نظرية "كلما ابتعدنا عن مراكز المدن في أوروبا الغربية كلما صادفت وواجهت الفاشية وتصرفات تعكس العنصرية"، والتي وجدتها في جميع سفاراتي وإقامتي في العديد من المدن في أوروبا الغربية، وهنا أضع لكم هذه المقالة التي تختزل متابعتي لهذه المعضلة ورصد تطورها.
يركز الكثيرون من المراقبين والمحللين حول العالم على أسباب مهمة لبروز اليمين في القارة الأوروبية، فرغم أن ليس هناك دولة متجانسة عرقيًا وثقافيًا بشكل مطلق، إلا أن تدفق المهاجرين واللاجئين يعدا سبباً رئيسياً.
كما أن من الأسباب ضعف الأداء الاقتصادي وارتفاع البطالة، ناهيك عن المبالغة في الحريات والحقوق كالمثلية، وضعف الثقة بالاتحاد الأوروبي على أثر الأزمات مثل الأزمة المالية 2008 وأزمة اليورو مع اليونان وخروج بريطانيا من اتحاد Brexit ومواجهة أزمة كورونا، إضافة إلى الخوف على القومية الوطنية من أطر العولمة.
حقيقةً، كل تلك الأسباب مهمة ورئيسية، إلا أنها لا تخفي السبب الجوهري المرتبط بوجود الفاشية في الوعي الأوروبي، وهي رؤية التجانس الثقافي الكلي، وهذه الفاشية متصادمة مع التعددية الثقافية والعرقية، بل هناك تزايد في الجرائم العنصرية في القارة الأوروبية بأكملها، فالتعددية الثقافية Multiculturalism كمصطلح خرجت في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي في كندا في اطار اعتماد ثنائية اللغة الإنجليزية والفرنسية، إلا أن استراليا هي الرائد في بلورة المصطلح في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم على أرض الواقع استجابةً لتنوع سكانها الناتج من الهجرات الأوروبية والآسيوية ومن الشرق الأوسط.
ففي أستراليا لغة واحدة رسمية لكن هناك لغات كثيرة في المنازل تعكس مدى التنوع العرقي والثقافي الذي له تشريعات واحتفالات وأطعمة أيضاً. وتثير التعددية الثقافية تحديات ومشكلات عدة، أهمها التشرذم الثقافي الناتج من التركيز على الاختلافات الثقافية مقابل إضعاف الهوية الوطنية ناهيك عن مظاهر التميز والصدامات داخل المجتمع، التي قد تأخذ صورة عرقية أو دينية.
فنحن أمام صعود ثقافي يميني متطرف في الديمقراطيات الغربية، وفي هذا الصعود نجد حضوراً كبيرا للنساء في أوروبا الغربية، فربما تناست المرأة الأوروبية أو جحدت الليبرالية التي مكنتها من الحضور السياسي والاجتماعي وكسرت من أجل حقوقها أغلال اليمين وخضوعها للرجل والكنيسة.
فالسيدة جورجيا ميلوني حققت فوزاً عبر حزبها أخوة إيطاليا في الانتخابات التشريعية الإيطالية، وهذا الفوز أتى في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة، والتي بصورة أو بأخرى تعكس تصدي روسيا القومية المحافظة في وجه تمدد الليبرالية الغربية.
فالأحزاب اليمينية بطبيعتها لا تؤمن بالاندماج والتكامل. حقيقةً، تتشابه حالة إيطاليا في مسار القومية والمحافظة والشعبوية مع السويد والمجر وبولندا، ففي وضع بولندا استطاع الرئيس البولندي المستقل ذو الخلفية المحافظة الشعبوية أندريه دودا الفوز بالانتخابات عبر الدعم والحضور الكبير لحزب العدالة والقانون المحافظ، ومازال هذا الحزب مستمرا في الانتخابات الأخيرة، ويتبنى الحزب سياسات شعبوية محافظة عبر دعم قضايا سكان القرى والأرياف الذي يعتبرون في صفاء عرقي وإلى حالة أقرب إلى العزلة الثقافية، مع توجهات لتشجيع الإنجاب وتماسك الأسرة، وإحياء القيم الدينية مثل نبذ ومحاربة المثلية، فمسألة صعود وانتشار تيارات اليمين المتطرف في بولندا ليست موجهة نحو الأقليات المسلمة بل إلى الجميع كاليهودية مثلاً.
وألمانيا على المسار نفسه عبر تنامي حضور حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي، رغم أن هناك هويات متعددة في ألمانيا، على سبيل المثال، ففي ولاية شمال الراين- وستفاليا الألمانية، يوجد مجتمع ياباني بالمعنى الدقيق. ومن الأهمية بمكان ذكر بأن الكثير من الأوروبيين والأمريكيين المحافظين أمسوا متأثرين بالمفكر الروسي ألكسندر دوغين، على الرغم من أنهُ من المحافظين القوميين ولكن بمسار يساري وليس رأسمالي.
وفي تناولنا لليمين الشعبوي على البعد الدولي، نجد تحديات كبيرة، فعلى حقيقة كون الليبرالية الغربية قد انتصرت على الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية والشيوعية بتفكك الاتحاد السوفيتي، ومن منطلق أيضاً كون الهوية الليبرالية بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة كونت أدواراً في السياسة الخارجية والأمنية مثل حلف الناتو، فإن رجوع الفاشية أو القومية المحافظة في القارة الأوروبية سيؤثر على تماسك المنظومة الليبرالية الغربية في إطارها الدولي، ويمكن لنا استشراف الغد والتمعن في حقيقة كون اتساع حضور اليمين المتطرف في أوروبا سيشجع مجتمعات وشعوب وأمم أخرى إلى بروز مشابه في التعصب عبر رؤية التجانس الثقافي الكلي مقابل رؤية مضادة لجميع الأقليات الأخرى، وهذا البروز سيكون لا محالة متضاد ومتصارع مع الدول والشعوب في الهوية الدينية والحضارية والعرقية.
وعلى الجانب الآخر، هناك من يقول بأن هذه "القومية والتيارات اليمنية الشعبوية" موجه صاعدة وستهبط قربيًا في أوروبا الغربية عبر الأجيال الناشئة وأهمية المهاجرين في الاقتصاد والانتاج وفي شؤون المجتمع كرعاية المسنين، إضافة إلى حقيقة نجاح المهاجرين في شتى المجالات من سوق العمل والتعليم والمهن والرياضة، بل منهم من أعتلى مناصب وزراية وأخرى إدارية وقضائية عالية المستوى. فهذا التفاؤل لا يلغي صحة مقولة أن صعود اليمين المتطرف والتيارات القومية والشعبوية في أوروبا في السياسة والمجتمع يُشكّل منعطفاً سياسياً خطيراً، لأنه يحاول الرجوع إلى الدولة القومية المتجانسة اجتماعياً وثقافياً وعرقياً في ظل ما يعيشه العالم من أطر العولمة وحقوق الإنسان وحرية الانتقال وإمكانية الهجرة ومظاهر الاتصال وحلقات الاعتماد المتبادل بين الشعوب والأمم، لذا فإن هذه المحاولة ستقود إلى تأثر الكثير من الدول بها ومحاكاتها بين شعوبها مسببة صراعات وصدامات داخلية.
نخلص إلى القول بأنه حتما ستكون هناك محاولات نحو إيجاد حلول عبر منظومة سياسية وقانونية وثقافية تعمل على جعل التنوع البشري والثقافي في إطار تجدد الدولة القومية وصياغة أسسها القومية من لغة ودين وأعراق وأعراف وثقافات، فالتاريخ يؤكد حقيقة استمرار هجرة الكثير من البشر لأسباب البحث عن الاستقرار والأمن وتحسين الوضع المادي ومستويات المعيشة، والذي يترتب عليه دائماً خلق وتطور وتجدد المجتمعات والدول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة