بين الحياد والخطر.. سويسرا تُنعش «ثقافة الملاجئ» في عصر القلق الأوروبي
في قلب القارة الأوروبية، حيث تشتهر سويسرا بحيادها السياسي وجبالها الشاهقة، توجد شبكة دفاعية لا ترى بالعين المجردة، لكنها تظل أحد أكثر أنظمة الحماية المدنية تقدماً في العالم.
فتحت شوارع زيورخ العتيقة، يختبئ "أورانيا"، وهو مرآب سيارات يتحول في لحظة إلى ملجأ يستضيف 11 ألف شخص في حالات الطوارئ، مجهز بأنظمة تنقية هواء، ومياه شرب، ومولدات كهرباء، وغرف قيادة متطورة، وفقا لتقرير صحيفة «واشنطن بوست».
تمتلك سويسرا اليوم نحو 370 ألف ملجأ شخصي، أي ما يكفي لتأمين مكان لكل فرد من سكانها البالغ عددهم نحو تسعة ملايين نسمة. هذا النظام الفريد يضمن بقاء السكان في مأمن خلال الكوارث أو الحروب، وهو جزء من منظومة الدفاع المدني التي تُلزم المواطنين بالخدمة العسكرية أو المدنية.
ومع دخول عام 2026، ستبدأ البلاد تطبيق لائحة جديدة للحماية المدنية، تتضمن تحديث 200 ملجأ كبير بتكلفة تقدر بـ276 مليون دولار على مدى 15 عاماً. كما سترتفع رسوم تمويل بناء الملاجئ العامة التي يدفعها مطورو العقارات من نحو ألف إلى أكثر من 1700 دولار لكل شخص.

بالتوازي، تعمل السلطات المحلية في الكانتونات المختلفة على تجديد أنظمة التهوية والترشيح في الملاجئ التي تجاوز عمرها 40 عاماً، بتمويل يصل إلى 1.2 مليار دولار خلال السنوات المقبلة. كما دعا الجيش السويسري الشركات المحلية والناشئة إلى طرح أفكار لتحويل التحصينات القديمة إلى «عُقد دفاعية يصعب مهاجمتها».
الحرب الأوكرانية.. ودروسها في الحياد المسلّح
يأتي هذا التحرك في سياق أوروبي متوتر بعد حرب أوكرانيا، التي أعادت إلى القارة شعوراً قديماً بالخطر وأطلقت سباق تسلح جديداً. وقد سارعت دول مثل السويد وفنلندا وفرنسا وبريطانيا إلى مراجعة قوانين التجنيد وزيادة الإنفاق الدفاعي، فيما تحركت سويسرا بطريقتها الخاصة نحو تعزيز الحماية من الداخل.
توضح المؤرخة سيلفيا بيرغر تسيعودين من جامعة برن أن "عقلية الملاجئ جزء من الحمض النووي السويسري"؛ إذ تعود جذورها إلى استراتيجية "التحصين الوطني" في أواخر القرن التاسع عشر، عندما بُنيت الملاجئ في جبال الألب لحماية البلاد من أي غزو أجنبي.

ولاحقاً، خلال الحرب الباردة، توسعت الفكرة لتشمل مواجهة التهديد النووي. ومع كل أزمة عالمية جديدة، من فوكوشيما إلى أوكرانيا، تستعيد سويسرا إيمانها بهذه الفلسفة الوقائية.
الحياة اليومية في زمن الأزمات
يرى دانيال يوردي، رئيس قسم الحماية المدنية في وزارة الدفاع السويسرية، أن التحدي اليوم لا يكمن فقط في حماية السكان داخل منازلهم، بل -أيضاً- في تأمين أماكن عملهم ومدارسهم في أثناء الطوارئ.
ويقول: "حتى في الحرب، يجب أن يستمر الاقتصاد. كما نرى في كييف اليوم، هناك من يذهب إلى العمل رغم الغارات، لذا يجب أن نضمن لهم الحماية في المدن الكبرى".
وتسعى السلطات -كذلك- إلى إبقاء المدارس مفتوحة لتجنب "الآثار النفسية الزائدة على الأطفال"، مستفيدة من تجارب دول أخرى مثل إسرائيل وفنلندا.
يوردي وصف تكلفة الملاجئ - المقدّرة بنحو 1800 دولار للفرد على مدى 60 عاماً - بأنها "تأمين ممتاز"، موضحاً: "رغم ضخامتها، فإنها تظل أرخص وأكثر فاعلية من أي وسيلة أخرى لحماية السكان".
مواصفات صارمة
تخضع الملاجئ السويسرية لمعايير هندسية دقيقة: جدران خرسانية مسلحة، وأبواب مضادة للانفجارات، وأنظمة تهوية متطورة، ومخارج طوارئ مقاومة للأسلحة النووية والكيماوية.
وتمنح هذه الملاجئ كل شخص مترا مربع من المساحة و2.5 متر مكعب من الهواء، مع مرحاض جاف لكل 30 فرداً. أما توزيع الأماكن فهو سرّ رسمي لا يُكشف إلا عند الطوارئ.
يقول المقدم فرانك أرمو من قوات الحماية المدنية: "في حال صدور أوامر التعبئة، يجب أن تكون الملاجئ جاهزة خلال خمسة أيام". ويضيف أن الاهتمام الشعبي بالملاجئ ازداد بشكل كبير مع بداية الحرب الأوكرانية، قبل أن يعود إلى الهدوء لاحقاً لكن الإحساس بالأمان بقي قائما.

من تجارة الأمن إلى ثقافة الطمأنينة
منذ ستينيات القرن الماضي، تحوّلت سويسرا إلى مصدر عالمي لتقنيات بناء الملاجئ. إذ تبيع شركاتها تصاميم جاهزة وأنظمة تهوية متقدمة لدول كثيرة، مما عزز سمعتها كرمز للجودة والدقة.
ويقول خافييه برون، الرئيس التنفيذي لشركة بانكر سويس، إن الحروب الأخيرة في أوروبا والشرق الأوسط رفعت الطلب على الملاجئ الخاصة؛ إذ "يزداد القلق بين الناس، والجميع يبحث عن الأمان". وتعرض شركته مجموعات جاهزة تتراوح أسعارها بين 46 و93 ألف دولار، أي نحو نصف تكلفة الملجأ المخصص بالكامل.

في المقابل، تتراوح أسعار الملاجئ في الولايات المتحدة بين 20 ألف دولار للنماذج البسيطة ومليون دولار للمنشآت الفاخرة المزودة بدور سينما وغرف تذوق النبيذ، بحسب رون هوبارد، الرئيس التنفيذي لشركة "أطلس سرفايفل شلترز".
ورغم فخامة تلك النماذج، يرى هوبارد أن النموذج السويسري أكثر واقعية، داعياً واشنطن إلى تبني سياسة دفاع مدني مماثلة تتضمن ملاجئ في المنازل وتمارين طوارئ في المدارس.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNTgg جزيرة ام اند امز