المتحاربون لا يكترثون سوى لقضم المزيد من الأرض السورية الرخوة من كثرة العمليات العسكرية عليها،
عندما أطلقت تركيا عمليتها العسكرية في عفرين، والتي أسمتها غصن الزيتون، ذكرت أنّه بالإضافة لمحاربتها حزبَيْ العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي، كانت تسعى إلى إعادة المدينة إلى أهلها، وهذا ما لم يحدث بل جاءت الصورة معاكسة لذلك.
فمع إطلاق أنقرة العملية العسكرية باتجاه عفرين بدأ مدنيوها الخروج منها وشهدت المنطقة حملة سرقة كبيرة في وضح النهار وعلى مرأى القوات التركية، من دون تحريك ساكن باتجاه حفظ ممتلكات المواطنين هناك.
من حق الدول الحفاظ على أمنها واستقرارها، ولكن شتان بين من يسعى لذلك ومن يضع نصب عينه طموحاً قديماً جديداً بزعامة المنطقة، وتخليد إرث العثمانيين فيها، وهذا برنامج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو لا يخفى على أحد، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية، وبالطبع فإن المدنيين في عفرين يدفعون فاتورة هذا البرنامج كما مُني أسلافهم من قبل في مدينة الباب شمال حلب (راجع عدد المدنيين الذين سقطوا في العملية العسكرية التركية في مدينة الباب شمال حلب).
الحشد الذي رافق الجنود الأتراك من الفصائل المعارضة والذي يقدر بسبعين ألف مقاتل كان بمقدوره فك الحصار عن الغوطة أو مساندة الفصائل هناك على الأقل، ولكنه لم يحصل على إذن من أنقرة التي سبق وأن باعت حلب حسب قادة فصائل المعارضة الذي انسحبوا من المشهد العسكري .
أنقرة تصنف حزبي PKK وPYD إرهابيان، وتقول إنّهما يشكلان خطراً على أمنها القومي، مما دفعها لتحريك آلتها العسكرية من دون إذن لا دولي ولا حتى من أصحاب الأرض، وساندتها في ذلك فصائل المعارضة التي تتهم قوات سوريا الديمقراطية بتهجير سكان المناطق العربية في تل رفعت شمال حلب وغيرها من المدن السورية.
في الواقع لا يمكن تجاهل تصرفات هذين الحزبين في المناطق التي سيطروا عليها عبر المضايقات الكثيرة لسكان تلك المناطق من العرب، ففي مدينة الرقة مثلا شكل الكرد مجلساً محلياً لإدارة المدينة مناصفة مع العرب، علماً أن نسبة الكرد في المدينة لا يتجاوز 10 في المئة من تعداد سكان الرقة الذي يقدر بنحو مليون نسمة قبل اندلاع الأزمة عام 2011.
هذا نموذج للأخطاء التي وقع فيها الكرد، ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق ما تعرضوا له من الجيش التركي؛ وبعض الفصائل المساندة له في العملية الأخيرة، والصور والأخبار المتداولة التي رافقت الحرب ضد عفرين تظهر حجم الظلم الذي وقع على أبناء المدينة من المدنيين.
في المشهد المقابل لعفرين، ثمة مدنيون في الغوطة الشرقية يدفعون ثمناً باهظاً للقصف الذي تتعرض له المدينة من قبل الجيش السوري، ناهيك عن تصرفات البعض تجاه الخارجين من هذه المنطقة المنكوبة.
دمشق تتحدث عن وجود عناصر لجبهة النصرة في الغوطة وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها، إذ أقرت الفصائل الموجودة، جيش الإسلام في دوما وفيلق الرحمن في عربين وزملكا وأحرار الشام في حرستا بوجود هذه العناصر، ولكن بعدد قليل لا يقارن وحجم العملية العسكرية المستهدفة المدينة.
موسكو ودمشق لم تكونا تستهدفان جبهة النصرة فحسب، بل الفصائل المذكورة هي الهدف، لتخليص دمشق من المظاهر المسلحة وعدم استهداف المدينة بالقذائف التي يسقط فيها المدنيون فحسب لا غيرهم كما تقول الحكومة على الدوام.
في الواقع لم يكن مصادفة انتهاء المشهد العسكري في المنطقتين المذكورتين، عفرين والغوطة، لولا التنسيق المباشر ما بين روسيا وتركيا والمقايضة التي حصلت، رغم نفي جميع الأطراف لهذه النظرية، وهذا ما أكده صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حين قال بأنّ تركيا ما كانت تحقق نصرها العسكري في عفرين لولا تسهيل ودعم الروس لها، والرجل لا يبدي رأياً بقدر ما يملك من أدلة ومعلومات التي ثبتت على أرض الواقع.
التنسيق التركي الروسي لا يحتاج مزيداً من الإقرار، فالحشد الذي رافق الجنود الأتراك من الفصائل المعارضة، والذي يُقدر بسبعين ألف مقاتل كان بمقدوره فك الحصار عن الغوطة أو مساندة الفصائل هناك على الأقل، ولكنه لم يحصل على إذن من أنقرة التي سبق وأن باعت حلب حسب قادة فصائل المعارضة الذي انسحبوا من المشهد العسكري.
المتحاربون لا يكترثون سوى لقضم المزيد من الأرض السورية الرخوة من كثرة العمليات العسكرية عليها، المدنيون آخر ما تفكر فيه الأطراف المتصارعة رغم وضعهم في مقدمة الخطابات الإعلامية التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، بينما يدفن السوريون أبناءهم كل لحظة.
مشاهد المدنيين في عفرين والغوطة ودمشق المدينة وتل رفعت والرقة لا يمكن تحملها، وما قدمه المجتمع الدولي لهؤلاء المساكين لم يزد عن الشجب والاستنكار، عجز دولي تجاه الشعب السوري لم يسبق له مثيل على الإطلاق، والسؤال.. ماهي المنطقة التالية المستهدفة وفق التنسيق الروسي التركي الإيراني، وكم من المدنيين ستدفعهم سوريا فاتورة لهذا الصراع المجنون؟.
منطقتان ستكونان مسرحاً للعمليات العسكرية المقبلة لدمشق وأنقرة مع تباين الأهداف بين الجانبين، ما يحكمها فقط هو الوسيط الروسي الذي يمنع التصادم المباشر بين الطرفين.. عفرين نموذجاً.
تركيا، وعلى لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، تستعد لتحريك جيشها باتجاه تل رفعت ومنبج شمال حلب لتحريرها كما تدعي من قوات سوريا الديمقراطية، علما بأنّ مجلساً عربياً محلياً هو من يسيّر أمور المدينة، ولكن النهم التركي بالسيطرة على حزام أمني داخل الأراضي السورية في الشمال تحديداً، يقودها إلى مزيد من المغامرات التي قد تنتهي بما تطمح له خصوصاً وأنّه لا رادع لها دولياً أو إقليمياً.
دمشق عينها على الجنوب وتحديداً درعا، ورغم الهدوء في تلك المنطقة إلّا أنّها تشكل أهمية كبيرة لها لاستكمال تأمين العاصمة وفتح المنافذ البرية، والاستفادة من الحركة الاقتصادية الكبيرة التي ستنتج عنها مع الأردن المتحمس هو الآخر لذلك.
ليس الجنوب فحسب، وإنما الرستن وريف حمص الغربي والجيوب الموجودة هناك ستكون وجهة حتمية لقوات النظام وإعلان حمص خالية تماماً، مدينة وريفاً من أي وجود مسلح.
أمّا إدلب فهي المعركة الفاصلة والمرتقبة لجميع الأطراف الداخلية منها والدولية، ومن بعدها يحين موعد جلوس هذه الدول لتقاسم الأرض السورية كلّ حسب مصلحته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة