الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما استخدم ملف سوريا وتسليح المعارضة للضغط على طهران في مفاوضاته معها حول ملفها النووي.
في مقابل القصف الجوي والبري اليومي، المستمر من قبل الجيش السوري وحلفائه على الغوطة الشرقية قرب دمشق، وما يسفر عنه من سقوط مئات القتلى غالبيتهم من النساء والأطفال، تتعالى أصوات المعارضة السورية مستنجدة "بالمجتمع الدولي" ومنددة بالموقف الروسي مما يحدث.
لن نبحث في هذا المقال في الشأن الإنساني، ومسألة فشل دخول المساعدات الإنسانية والطبية، فالصورة واضحة وتدمي القلب والعين معا.. لكن نسأل: ألم ترَ المعارضة السورية أن هذا السيناريو قادم حتما ولو تأخر؟ ألم نعش المشهد نفسه سابقا في حلب وحماة؟ وقد نشهده لاحقا في إدلب! وهل كان بإمكان المعارضة السورية فعل شيء إزاء ذلك؟
لنعد إلى بداية القصة ونتحدث قليلا عن الجيش السوري الحر الذي تشكل بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية، فجزء من المعارضة السورية كان يرى في "تسليح الثورة" خطأ كبيرا، وقد تعرض هذا القسم لاتهامات بالتخوين ودعم نظام بشار الأسد من قبل المعارضات الأخرى، لكن كلا الفريقين كان يعلم ويدرك جيدا أن تسليح المعارضة ما كان ليحدث لولا ضوء أخضر من واشنطن في حينه، وكلاهما أيضا تساءل عن سبب تذبذب هذا الدعم، ورفض واشنطن إسقاط النظام بقوة السلاح.
بتنا نعلم اليوم يقينا أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما استخدم ملف سوريا وتسليح المعارضة للضغط على طهران في مفاوضاته معها حول ملفها النووي، العديد من ضباط الجيش السوري الذين انشقوا ولجأوا إلى تركيا ورفضوا الانضمام إلى الجيش الحر -وما زال كثير منهم يسكن في خيام اللجوء في تركيا أو هرب إلى أوروبا- كانوا يقولون حينها إن المواجهة المسلحة مع نظام بشار الأسد ستؤدي إلى دمار كبير وأعداد مضاعفة من القتلى بين المدنيين تفوق بكثير ما كان يسقط خلال التظاهرات السلمية، بسبب فقدان المعارضة غطاء جويا لعملياتها العسكرية، وأن دخول مسلحي المعارضة إلى داخل المدن الكبيرة سيدفع الأسد دون تردد إلى قصف تلك المدن.
بقي الصوت المنادي في المعارضة لترك السلاح والبحث عن وسيلة أخرى لتحقيق مطالب المعارضة أو التعديل من تلك المطالب وفق التطورات الجديدة وميزان القوى الجديد خافتا، مقابل تلك الأصوات المصرة على استمرار القتال، مدفوعة بمطالب ثأرية
لكن المعارضة المسلحة أصرت على دخول المدن ومحاولة السيطرة عليها، بعد أن خدعت بالدعم الأمريكي الذي ظنت أنه سيستمر حتى النهاية، وقادها في ذلك قيادات فصائل عسكرية لا خبرة لها في القتال والحرب، كما راهنت المعارضة السورية السياسية على "تحرك المجتمع الدولي" في حال أقدم بشار الأسد على مجازر بحق المدنيين نتيجة القصف الجوي، لكن هذا "المجتمع الدولي" خذل المعارضة السورية مرارا خلال السنوات السبع الماضية، بل إن الرئيس أوباما الذي توعد دمشق بقصفها في حال استخدم الجيش السوري السلاح الكيماوي تراجع عن تهديداته تلك بعد صفقة مع موسكو حول نزع ذلك السلاح.
ورغم خذلان المجتمع الدولي المعارضة السورية ودخول روسيا الحرب بقوة عام 2015 لم تغير المعارضة السورية من استراتيجيتها؛ القائمة على استمرار العمل المسلح على الأرض، ولم تدرك حينها أن الشعب السوري -من كلا الطرفين- سيصبح وقودا لحرب باردة بالإنابة بين واشنطن وموسكو على الأرض السورية، ورغم تأكيد العديد من المحللين العسكريين أن دخول روسيا المشهد سيقلب موازين القوة فيه بشكل صارخ، إلا أن الفصائل المسلحة استمرت في تجاهل الحقائق على الأرض، خصوصا بعد سيطرة فصائل النصرة وداعش على مشهد القتال على الأرض ضد النظام وحلفائه.
وبعد المصالحة التركية الروسية عام 2016 بدا واضحا أن التفاهمات قامت بين موسكو وأنقرة أساسا على تصفية جميع القوى المسلحة المعارضة، سواء المصنفة إرهابيا أو غيرها، مقابل تقاسم نفوذ على الأرض في شمال سوريا، واتضح ذلك بالدليل في حلب، ورغم كل هذه الأدلة بقي الصوت المنادي في المعارضة لترك السلاح والبحث عن وسيلة أخرى لتحقيق مطالب المعارضة أو التعديل من تلك المطالب وفق التطورات الجديدة وميزان القوى الجديد خافتا، مقابل تلك الأصوات المصرة على استمرار القتال، مدفوعة بمطالب ثأرية.
من بين ملفات الضغط التي كان يمكن -وما زال- للمعارضة الرهان عليها بديلا عن السلاح ملفات إعادة إعمار سوريا، والاعتراف الدولي بالنظام بعد وقف الحرب، وكذلك ملف محاكمة الأسد بتهمة استخدام السلاح الكيماوي، إضافة إلى الاقتراح الذي قدمته بعض فصائل المعارضة المسلحة؛ القائل بالانسحاب من المدن والتوجه إلى أسلوب حرب العصابات لإنهاك قوى النظام، والرهان على اختلاف مصالح إيران وروسيا بعد انتهاء الحرب في سوريا.
فموسكو التي قالت سابقا إنها تريد الحفاظ على الدولة وأجهزتها وليس بقاء الأسد في الحكم لا يمكنها أن تنفرد بإعادة إعمار سوريا وحدها، وقد ناقش بعض قيادات المعارضة صفقة مع موسكو تقوم على إلقاء السلاح مقابل دعم دولي لحل سياسي وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، بل إن موسكو طرحت على الفصائل المسلحة -غير الإسلامية- صفقة أخرى تقضي بأن تحارب هذه الفصائل داعش مقابل سيطرتها هي على الأراضي التي ستطرد داعش منها، وتشكيل جيش سوري موازٍ يحظى بدعم موسكو، لكن تلك الفصائل أصرت على أنها لن تقاتل سوى قوات الأسد.
ما يحدث على الأرض السورية منذ عامين وحتى الآن هو صراع نفوذ دولي وإقليمي ليس للسوريين دور أو مصلحة فيه، من كلا الطرفين المعارضة والنظام، وكل ما تقدمه واشنطن هو "عرقلة وتأخير" الحسم العسكري الروسي القادم لا محالة وفق معادلات القوة على الأرض، فواشنطن التي لم تتردد في قصف قوات الجيش السوري والمليشيات المساندة عندما اقتربت من مناطق سيطرة قوات جيش سوريا الديمقراطي في دير الزور لا تقدم شيئا للغوطة، لأنها تعرف أن الهدف النهائي الذي اتفقت ضمنيا عليه مع موسكو هو القضاء على جميع الفصائل المسلحة المعارضة، لكنها تريد أن تدفع موسكو ثمن تحقيق ذلك، من أجل مساومتها على تثبيت تواجد قوتها العسكرية في شمال سوريا.
في الغوطة الشرقية يتم الحديث عن وجود نحو عشرة آلاف مقاتل، وأن جميعهم من أبناء الغوطة وليسوا من خارجها، وأنهم تسلحوا كي يحموا أنفسهم من بطش نظام الأسد، وأن المسلحين يدافعون عن "أرضهم" وأهلهم، لكن في المقابل لا يجيب هذا الطرح عن سؤال مهم، وهو انقسام فصائل الغوطة المسلحة بين أكثر من ستة فصائل، ووجود نحو 200 مقاتل من النصرة بينهم، وقد حدث سابقا أن استفاد الجيش السوري في مناطق الغوطة من الاحتراب الداخلي بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وجبهة النصرة، وحقق تقدما على حساب تلك الفصائل في العديد من مدن الغوطة.
إن القائد العسكري الذي يرى بعيون الحفاظ على أرواح أهله الذين يدافع عنهم يدرك خيار إلقاء السلاح أمام معركة خاسرة سلفا، خصوصا إذا كان العدو يمارس سياسة الأرض المحروقة ولا يهمه ما يسقط من مدنيين في هذه المعركة.
لا يمكن لأحد استطلاع رأي أهالي الغوطة المقدر عددهم بنحو 400 ألف نسمة حاليا حول خياراتهم أمام هذا القصف الصاروخي المميت، وقد تسابقت وسائل الإعلام الموالية لدمشق في نشر فيديوهات تقول إنها لجزء من سكان الغوطة يطالبون بخروج المسلحين، كما أن الإعلام المستقل ممنوع من قبل دمشق من الوصول إلى حلب لمتابعة أحوال المواطنين هناك بعد عودة سيطرة الجيش السوري عليها.
كثير من السوريين الذين استطاعوا الهرب من جحيم القتال في سوريا يقولون إن المواطن العادي لم يكن أمامه أي خيار بالمطلق، فإما أن ينضم إلى الفصائل المسلحة كي يحمي نفسه وعائلته من جيش النظام أو الفصائل المعارضة المنافسة التي تغير على مناطقهم في ظل صراع القوة والسيطرة بين تلك الفصائل على المزيد من المناطق، أو أن يبقى مواطنا أعزل ينتظر الموت بالبراميل المتفجرة التي تسقطها طائرات الجيش السوري، أو الخضوع بمهانة للنظام الذي تفرضه تلك الفصائل المسلحة على الأرض، والتي عمد كثير منها لتقليد النظام في زرع الحواجز الأمنية في المناطق التي تسيطر عليها وانتزاع الإتاوات منهم.
لا يمكن الجزم بأن اعتماد المعارضة المسلحة خيار ترك السلاح واستخدام أوراق الضغط الأخرى المذكورة أعلاه كان سيحقق لها مطالبها، لكن على الأغلب كان ذلك الخيار سيحقن الكثير من الدماء، يمكن لمن يصر على شعار "الموت ولا المذلة" ويحصر خياراته بينهما دون البحث عن خيار آخر أن يستمر في مساره، لكن عليه أن يتوقع النتيجة وألا يلقي باللائمة كلها على المجتمع الدولي الذي خذله سابقا ويخذله الآن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة