حسابات الغزو التركي للشمال السوري
الغزو التركي أضاف للأزمة السورية أبعادا جديدة سوف تترك تداعيات سلبية على التوجه الذي تبلور إلى الحل السياسي بعد تشكيل اللجنة الدستورية.
تواصل تركيا عملياتها العسكرية في شمال سوريا التي بدأتها ٩ أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بدعوى محاربة قوات الحماية الكردية التي تتهمها بالإرهاب.
واتخذت تلك العمليات مستويات عسكرية متعددة. بدأت بحشد المدرعات وبطاريات مدفعية مكثفة على حدود منطقة العمليات سواء من الشريط الحدودي بينها وبين تركيا. وكذلك من مناطق السيطرة التركية في منطقة عفرين، حيث أكدت تركيا أنها ضربت 181 هدفا، ودمرت مواقع دفاعية سمحت بدخول القوات إلى عمق حدود خمسة كيلومترات حتى ١٠ أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ودفعت تركيا بقوات تابعة لما يسمى بالجيش الوطني السوري (فصائل سورية تابعة لتنظيم الإخوان وتنظيمات إرهابية كانت على صلة بالمخابرات التركية، لتكون في مقدمة الغزو البري للمنطقة.
وتؤكد مصادر تركية أن هذه المرحلة من الغزو طبقاً للخطة التركية تستهدف تصفية الوجود العسكري للقوات الكردية في منطقة تمتد إلى حوالي 120 كيلومترا وبعمق يتراوح بين 10 إلى 15 كيلو، وتستهدف مدينتي تل أبيض ورأس العين وتتميز تلك المنطقة بأنها ذات كثافة سكانية منخفضة ومعظم سكانها من العرب مقارنة بالمنطقة التي تليها ذات الكثافة السكانية الأكبر ومعظم سكانها من الأكراد، خاصة مدينتي الحسكة والقامشلي، وتعتبر منطقة فاصلة بين القطاعات الكردية الثلاثة في الشمال السوري إلى جانب عفرين التي سبق أن احتلتها تركيا.
تتجاور هذه المنطقة مع مناطق التمركز الكردي والعلوي في تركيا فضلا عن تصريحات أردوغان أكثر من مرة بأن تلك المنطقة تاريخياً هي جزء من تركيا وبالتالي فإن الأطماع التركية فيها لا تحتاج إلى مبررات.
الغزو التركي للمنطقة لم يكن مفاجئا لأي من القوى المنخرطة في الأزمة السورية، فهي تعلن وتهدد بذلك منذ بداية الأزمة السورية وتتحرك لتنفيذ أهدافها تدريجياً.
والسؤال هنا ما هي المستجدات التي دفعت تركيا لتنفيذ ذلك الآن؟ خاصة بعد اتفاقها مع الولايات المتحدة على تحديد منطقة آمنة وإبعاد القوات العسكرية الكردية، وتسيير دوريات مشتركة لضمان عدم تهديد الحدود التركية وأن يقتصر عمق العملية على 3 كيلومترات تكون حزام أمان لتركيا.
لماذا غزت تركيا شمال سوريا؟
الإجابة على ذلك يمكن إدراكها بالنظر إلى ما يلي:
- شهدت الفترة الماضية دعما سياسيا كبيرا من الولايات المتحدة والدول الغربية للإدارة الكردية، بحيث أصبحت كيانا مستقلا استكمل كل متطلبات الدولة المستقلة، خاصة بعد وقوف واشنطن في وجه انتشار الجيش السوري ودخوله إلى المنطقة، وتوفير القدرات الاقتصادية اللازمة حيث استولت بمساندة أمريكية على أكثر من ثلث الموارد الاستراتيجية السورية "آبار البترول التي تمثل 90% من البترول السوري"، ومخزون الحبوب والقطن وكان الهدف الأمريكي ولا يزال تجزئة الدولة السورية.
- إعلان الانسحاب الأمريكي خاصة من منطقة العمليات المذكورة هو ما أعطى إشارة ذات معنى لتركيا وأثار تساؤلات حول أبعاد وتوقيت هذا الانسحاب خاصة وأن بداية الغزو التركي تزامنت مع موافقة أمريكية على صفقة باتريوت لتركيا، كما أن الرفض الأمريكي للعمليات بررته الجهات المعنية بالحرص على المدنيين، وبغض النظر عن مبررات الرئيس الأمريكي الانتخابية للانسحاب، إلا أن الموقف الأمريكي يطرح الكثير من علامات الاستفهام، خاصة بعد تصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأن لتركيا مخاوف أمنية مشروعة، وهو ما يبرر العملية كما أن بعض المصادر ترى أن التقدير الأمريكي للعملية التركية أنها ستكون محدودة في منطقة العمليات الأولى، ولن تتم تصفية القوات العسكرية التركية بصورة كبيرة.
- لم تتجاوز المواقف الدولية حتى اللحظة رفض العملية التركية كما أنها حتى الآن لم تتصاعد لتفرض ضغوطا مؤثرة على تركيا تدفعها للمراجعة أو عدم تطوير عملياتها كما أن معظم القلق الأوروبي ينصرف بصورة أساسية إلى إمكانية الإفراج عن آلاف المعتقلين من داعش في السجون الكردية وهو ما يهدد أمنها بصورة مباشرة.
-رغم المعارضة الإيرانية للعملية التركية فإنه من الواضح حرص إيران على المحافظة على مستوى العلاقات الحالي مع تركيا خاصة أنها تتفق معها استراتيجيا في التعامل مع الأكراد.
-الموقف العربي حتى الآن يندرج في إطار الرفض الرسمي للعملية التركية ويتساءل الكثيرون حول إمكانية تطوره من خلال إجراءات أكثر وضوحا وتأثيراً في مواجهة الغزو التركي يمكن أن ترتب حضوراً عربياً على المستوى الإقليمي، وتحاصر التمدد التركي وإن كان ذلك يتطلب بداية استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية وعودة السفراء العرب إلى دمشق للتفاعل المؤثر مع تطورات الأزمة السورية.
بصفة عامة فإن تقدير مسارات التطورات المرتبطة بالغزو التركي لشمال سوريا يمكن إدراكها بالنظر إلى ما يلي:
- الاستراتيجية التركية التي تستهدف فرض السيطرة على الشمال السوري شرق الفرات بامتداد 460 كيلومترا وبعمق 30 كيلومترا لن تتحقق خلال العملية العسكرية الجارية الآن، وإنها سوف تقتصر على المرحلة الأولى فقط وإلا فستدخل تركيا في مرحلة استنزاف عسكري غير محسوب.
- الموقف الأمريكي والأوروبي الضعيف حتى الآن سوف يتصاعد مع تمدد قوات الغزو التركية وزيادة الضحايا المدنيين. ولا شك أن تحديد زيارة أردوغان لواشنطن منتصف الشهر المقبل من المتصور أن تكون في نهاية تلك المرحلة من العملية.
- التحرك التركي استهدف في جانب منه التحلل من الالتزامات التي وافقت عليها تركيا بخصوص محاصرة وتصفية التنظيمات الإرهابية في إدلب، وسوف يسعى أردوغان للاستفادة من هذه التنظيمات في مواجهة القوات الكردية.
- إن ما تسعى إليه تركيا من توطين مليونين من اللاجئين السوريين العرب في منطقة العمليات لتكون حاجزاً عند حدودها والتمركز الكردي، أمر صعب التحقيق وسوف يهيئ مناخا لحرب أهلية تهدد الاستقرار في سوريا ودول الجوار خاصة العراق.
- التحرك الروسي للتقريب بين الأكراد والنظام السوري يحتاج إلى جهد كبير لإحداث اختراق على هذا المستوى بفرض توصل الطرفين إلى تفاهمات تكفل التسليم بمكاسب للإدارة الذاتية الكردية ضمن الدولة السورية، وإن كانت تركيا سوف تضغط في مواجهة ذلك لموازنة النفوذ السوري، وذلك في إطار السعي التركي لإيجاد أرضية مصالح مشتركة مع واشنطن على هذا المستوى.
- لن يواجه الجيش السوري الغزو التركي لأسباب أهمها أنه لا تتوافر لديه القوات اللازمة لذلك كما أن واشنطن والأكراد لن يسمحا بانتشاره في تلك المنطقة، وذلك مرهون في النهاية بالموقف الروسي الحاكم.
الخلاصة أن الغزو التركي قد أضاف للأزمة السورية أبعادا جديدة سوف تترك تداعيات سلبية على التوجه الذي تبلور للذهاب إلى الحل السياسي بعد تشكيل اللجنة الدستورية، وسوف يظل مستقبل تسوية هذه الأزمة مرهوناً بتفاعل الأجندات الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة وتفاهمات المصالح الجارية بينها، والتي تؤكد أن قضية عودة الدولة السورية المركزية ليست الأولوية ذات الأهمية لديها.