خيارات أنقرة الصعبة في شمال سوريا
هل ستقبل واشنطن وموسكو بعملية عسكرية تركية واسعة في شمال سوريا تنفذها لحسابها وحساب شركائها ؟
يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن "ما يجري في سوريا هو أبعد من مسألة مواجهة التنظيمات الإرهابية والحرب على داعش، لذلك نحن ملزمون باتخاذ القرارات والخطوات العاجلة لإكمال ما بدأناه، نحن عازمون في إطار عملية درع الفرات على غمس خنجر في قلب الإرهاب، وبالتالي توسيع نطاق العمليات العسكرية. سوف نتخذ في المستقبل القريب خطوات جديدة ومهمة حول هذا الموضوع".
لكن حليف تركيا المفترض في الجانب الأمريكي وعلى لسان مبعوث التحالف الدولي بريت ماكغورك لا يتردد في توجيه الاتهامات والتلميحات حول وجود علاقة تربط أنقرة بتنظيم جبهة النصرة في إدلب، ثم يتبع ذلك مواقف استكمالية يعلنها مبعوث ترامب الخاص إلى سوريا مايكل ريتني بقوله إن بلاده ستجري عملية عسكرية في حال سيطرت التنظيمات المرتبطة بالقاعدة على إدلب.
آخر مواقع المواجهات التركية الأمريكية ظهرت إلى العلن في الأيام الأخيرة على أكثر من جبهة:
- تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ورئيس الأركان جوزيف دانفورد في موضوع تمدد قوات هيئة تحرير الشام في إدلب واتهام تركيا بشكل غير مباشر بتسهيل تحركات هذه المجموعات وانتشارها.
- ارتدادات ما أعلن في موسكو وأنقرة على اقتراب إنجاز صفقة بيع صواريخ إس 400 روسية لأنقرة، والرفض الأمريكي لهذه الصفقة لتعارضها مع تفاهمات واتفاقيات حلف شمال الأطلسي الملزمة لتركيا.
- انتقادات تركية لبيان واشنطن حول تجميد دعم قوى المعارضة السورية المعتدلة والتمسك بإرسال شاحنات السلاح والعتاد إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يكاد يصل إلى ألف شاحنة كما تقول التقارير الأمنية التركية.
- الرد الأمريكي الغاضب على هذه التهم وتحميل الإدارة الأمريكية لأنقرة مسؤولية الكشف عن خارطة وجود وانتشار قواعدها العسكرية السرية في سوريا تحت ذريعة دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المرفوض تركيا.
- قطع واشنطن طريق تقدم وتمدد القوات التركية في منبج وعفرين وتجميد تفاهمات الأستانة الثلاثية عبر اتفاقيات بديلة مع موسكو في أكثر من بقعة جغرافية سورية.
- تراجع فرص وحظوظ خطة منطقة تخفيض التوتر في إدلب والدخول العسكري التركي إليها بالتنسيق مع القوات الروسية عبر تحريك ورقة جبهة النصرة ضد أنقرة، وضرورة إشراك واشنطن مباشرة في خطط الحرب على الإرهاب هناك.
إدلب خطّ توتر آخر في مسار العلاقات التركية الأمريكية وهي جاهزة للتحول إلى بركان متفجر في أية لحظة بعد تقدم وانتشار وحدات هيئة تحرير الشام في المدينة.
مشكلة أنقرة على ضوء مواقف القيادات السياسية التركية الأخيرة أنها ستحارب في أكثر من مكان في شمال سوريا:
- في منبج أولاً، وبهدف إنجاز عملية درع الفرات التي لم تُكتمل بسبب الحماية المطلقة التي وفرتها القوات الأمريكية والروسية للوحدات الكردية في سوريا.
- في عفرين ثانياً، في إطار خطة سيف الفرات ومنع التمدد الكردي مجددا في محاولة لدمج الكانتونات الكردية ببعضها البعض في شمال سوريا وهي الخطة البديلة التي دفعت أنقرة للتحرك في إطار سيف الفرات.
- الوصول إلى إدلب تحت شعار جمع السيف والخنجر هذه المرة لقطع الطريق على محاولات لعب ورقة جبهة النصرة ضدها.
هل توفر سيطرة النصرة على إدلب فرصة لأنقرة لإنجاز خطة منطقة تخفيف التوتر بالتنسيق مع روسيا وإيران في إطار اتفاقات الأستانة؟ أم هي مصيدة جديدة لأنقرة لتوريطها في جبهة رابعة داخل المستنقع السوري سيتركها لاحقا في مواجهة مباشرة مع قوات النظام السوري وحلفائه؟ أم أن أنقرة ستجد نفسها هذه المرة ملزمة بالتفاهم مع إيران والنظام السوري لقطع الطريق على أي اصطدام عسكري تركي مباشر مع هذه القوات؟
واشنطن تتهم أنقرة بالتغاضي عن تمدد النصرة الإرهابي باتجاه حدودها الشمالية الغربية، وأنقرة تتهم حليفها الأمريكي بالتعتيم على المشروع الكردي الفيدرالي في شمال سوريا. ما الذي ستفعله تركيا إذا ما اكتشفت أن موسكو حليفها الجديد في سوريا يلعب ويناور من تحت الطاولة مع واشنطن؟ وكيف سيكون مصير مشاريع التعاون الاستراتيجي التركي الروسي في مجالات الطاقة والتسلح وصفقة صواريخ إس 400؟
هل ستقبل واشنطن وموسكو بعملية عسكرية تركية واسعة في شمال سوريا تنفذها لحسابها وحساب شركائها هناك تقطع الطريق على الخطط الأمريكية والروسية في تلك المنطقة الاستراتيجية التي تربط العمق السوري بسواحل المتوسط؟
مشكلة تركيا الأكبر ستكون إذا ما صدقت المعلومات حول وجود تفاهمات أمريكية روسية بديلة في مشروع مناطق تخفيف التوتر وأن محاولة تسليم شمال إدلب إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أفضل وسيلة لإلهاء أنقرة وتوريطها أكثر فأكثر في المستنقع السوري وتركها أمام خيار وحيد هو الدخول في مواجهة مباشرة مع وحدات هيئة تحرير الشام التي طردت حلفاءها المحليين من إدلب، وبذلك تكون قد أصابت عصفورين بحجر واحد؛ إبعاد مجموعات النصرة عن حدودها، والرد على اتهامات أمريكية واضحة تتحدث عن تجاهل تركيا لتمدد وسيطرة التنظيم على إدلب واقترابه من نقطة الحدود التركية السورية؛ فهل تنجح في إنجاز ما تريد؟
حقيقة لا يمكن إغفالها بالنسبة لتركيا بعد الآن وهي صعوبة تنفيذ أية عملية عسكرية واسعة في شمال سوريا دون التنسيق مع واشنطن أو موسكو أو أخذ موافقة الطرفين معا على هذه العملية.
"سيف الفرات" عملية عسكرية تهدف لإنجاز خطة مناطق تخفيف التوتر المتفق عليها روسيّا وإيرانيّا وتركيّا، في إدلب، توفر لتركيا البقعة الجغرافية الواسعة التي تريدها في إطار المنطقة الآمنة التي تسهل عودة آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وتخفف أعباء تركيا المادية واللوجستية في هذا الملف، وتتولى إدارة شؤونها مع المعارضة السورية وموسكو في إطار اتفاقيات الأستانة، لكن العملية تهدف أيضا لرفع مستوى التفاهم العسكري بين أنقرة وموسكو الذي يقلق الغرب، ويهدّد علاقات تركيا وتحالفاتها، وتحديدا مع شريكها الأطلسي، وربما هذا كله كان كافيا لإغضاب واشنطن ودفعها لطرح خطتها البديلة في إدلب وشمال غرب سوريا ومحاولة إقناع موسكو بها لإخراج أنقرة من اللعبة .
في العلن المخطط الأمريكي هو الذي يتقدم على بقية المشاريع وخطة الحزام الكردي في ثلثي المناطق الحدودية التركية السورية يكاد يتحول إلى قضاء وقدر تركي، والدليل هو عرقلة الإدارة الأمريكية لعملية درع الفرات وإيقافها عند منبج ثم قرار الانتقال إلى الخطة "ب"، التي تتحدث عن تشكيل حزام جديد جنوب خط أعزاز-جرابلس، لتوحيد عفرين مع بقية المناطق التي يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عليها وسحب ورقة إدلب من يد أنقرة .
تركيا التي تناقش خطة ما بعد داعش في الرقة ستجد نفسها إذا ما ترددت وتأخرت خارج نقاشات إدلب نفسها هذه المرة. الواضح هو أن ما تجنّبته تركيا في شمال العراق عام 2003 وقرار عدم الالتحاق بالحرب الأمريكية هناك ستجد نفسها ملزمة بالإقدام عليه وقبوله في شمال سوريا هذه المرة حتى لا تتحمل أعباء وارتدادات التطورات العسكرية والسياسية على أمنها القومي.