تركيا.. حرب ترحيل اللاجئين السوريين "٢-٢"
ثمة دوافع عدة وراء تصاعد حملات الكراهية ضد السوريين في تركيا بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتردية.
تبدو أزمة اللاجئين السوريين في تركيا مرشحة للتفاقم في ظل الإجراءات المتشددة ضدهم، فضلاً عن أن غالبية اللاجئين السوريين لن يكونوا باستطاعتهم العودة إلى أراضيهم في الوقت الراهن، بالتوازي مع إعادة إعمار وبناء الدولة التي مزقتها الحرب، خاصة أن تسوية الأزمة السورية باتت مرهونة بمصالح وتوازنات إقليمية ودولية تمسك بمفاصل الأزمة، وتتحكم في جانب معتبر من مساراتها، وهو ما يزيد من تعقيد حل الأزمة.
والواقع أن ثمة دوافع عدة وراء تنامي التوتر بين الأتراك واللاجئين السوريين، وتصاعد حملات الكراهية ضد السوريين في تركيا، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
التراجع الاقتصادي
أشعل الركود الاقتصادي ومعدلات التضخم العالية التي قفزت إلى نحو 19,5 في المئة، ناهيك عن فقد الليرة أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار. كما أدى ارتفاع العاطلين الأتراك إلى تنامي الغضب تجاه السوريين الذين ينظر الأتراك للكثيرين منهم باعتبارهم عمالة رخيصة؛ حيث يميل بعض أصحاب القطاع الخاص لتوظيف السوريين الذين لا يمتلكون تصاريح عمل رسمية، وذلك بسبب أجورهم الزهيدة. كما يرى بعض الأتراك أن تزايد أعداد اللاجئين السوريين بنسب كبيرة، تسبب في الضغط على السلع والخدمات العامة مثل وسائل النقل والتعليم والمستشفيات.
تجدر الإشارة إلى أن الكثافة المرتفعة للسوريين في المحافظات التركية الواقعة في الجنوب والشرق، أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة بتلك المناطق، كما تسبب الإطار التشريعي الحالي بتركيا في تفاقم مشاكل سوق العمل بالمنطقة، من خلال دفع القوة العاملة المحلية والسورية إلى التنافس على الوظائف غير الرسمية ذات الأجور المتدنية.
التهديدات الأمنية
على الرغم من أن تركيا تحاول إبراز عودة اللاجئين السوريين وكأنها طواعية من خلال الاتصال بالمواطنين السوريين وإعلامهم بضرورة العودة إلى بلادهم ضمن فترة زمنية معينة، إلا أن هناك عدداً من العمليات رصدتها منظمة العفو الدولية في تقاريرها السنوية الأخيرة، لإعادة قسرية جماعية للسوريين على أيدي قوات الأمن التركية، فضلاً عن الإجبار القسري غير المشروع لبعض السوريين على العودة إلى سوريا قبل دخول الحدود التركية باستخدام أساليب العنف.
ومن جهتها انتقدت "هيومن رايتس ووتش" في يناير/كانون الثاني 2019، تركيا لاستخدامها "القوة المميتة" ضد النازحين السوريين الذين يحاولون العبور إلى أراضيها، ودعت أنقرة إلى وقف إعادتهم "قسرياً" وفتح الحدود أمامهم. وقالت المنظمة إن رصاص حرس الحدود الأتراك تسبب خلال الأشهر الأخيرة في مقتل عشرات الأشخاص.
وجاء في بيان المنظمة أن "حرس الحدود التركية المغلقة مع سوريا بجدران إسمنتية، يطلقون النار عشوائياً ويعيدون بشكل جماعي طالبي اللجوء السوريين الذين يحاولون العبور إلى تركيا".
على صعيد متصل، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان في أحدث تقاريره الصادرة في فبراير/شباط 2019، والمعتمدة دولياً، الخسائر البشرية في سوريا الناجمة عن إطلاق حرس الحدود التركي النار على اللاجئين السوريين، فيما المعارضة السورية صامتة كعادتها تجاه الجرائم التي تواصل تركيا ارتكابها بحق السوريين. كما ذكر المرصد السوري (ومقره لندن) أن قوات حرس الحدود التركي قتلت 419 مدنياً سورياً منذ "انطلاقة الثورة السورية" بينهم 75 طفلاً و38 امرأة.
وربما يعود ذلك إلى مخاوف تركيا المتزايدة من تسلل بعض عناصر داعش أو عناصر حزب العمال الكردستاني وغيره من الأحزاب الكردية المحظورة تركياً، إلى داخل البلاد بين تدفقات اللاجئين السوريين.
اختلال التوازن الديموغرافي
يُعد تدفق اللاجئين السوريين من وجهة نظر بعض الأتراك ماساً بالتوازن الديموغرافي، ومن ثم فإن تداعيات بقاء النازحين السوريين في تركيا على المدى الطويل ربما تكون كارثية على المستويات الديمغرافية والأمنية، بالشكل الذي بدا واضحاً في إسطنبول التي يعيش فيها أكثر من نصف مليون سوري.
وتتصاعد وتيرة المخاوف من التغيير الديموغرافي لدى الشارع التركي مع توجه حزب العدالة نحو تجنيس الخبرات والكفاءات السورية التي يفتقر لها المجتمع التركي كمهن الطب والهندسة وما شابه ذلك. وترفض المعارضة التركية فكرة منح الجنسية للاجئين السوريين. وأثارت مشاركة عدد من اللاجئين السوريين في الحملات الداعمة لمرشحي العدالة والتنمية في الاستحقاقات الانتخابية حفيظة التيار القومي والعلماني، على اعتبار أن ذلك يدفع أردوغان وحزب العدالة والتنمية للعمل مستقبلاً على توظيفهم لتحقيق مكاسب حزبية خاصة.
انتشار الشائعات
أدت الشائعات السلبية عن السوريين ومجتمعاتهم في الداخل التركي إلى زيادة حالة الاحتقان ضدهم، وصعود خطابات العنصرية والكراهية؛ حيث يتم الترويج لشائعات عن سوء أخلاق السوريين، وظهر ذلك في أحداث حي "كوتشوك تشيكمجة" في إسطنبول، على خلفية شائعة نفتها السلطات، تفيد أن صبياً سورياً تلفظ بكلام مسيء مع فتاة تركية. واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه لتفريق المهاجمين لكنهم كانوا قد دمروا بالفعل الكثير من المتاجر السورية في الحي ومزقوا اللافتات المكتوبة بالعربية.
وتجدر الإشارة إلى أن وزير الداخلية التركي قد أكد في 6 يوليو/حزيران 2019، أن متوسط معدل الجريمة لدى السوريين أقل من نصف معدل الجريمة للمواطنين الأتراك، وأضاف أن نسبة الجريمة لدى السوريين منخفضة، وأن هناك من يقوم بتشويه صورتهم.
في المقابل ثمة شائعات مفادها أن الحكومة تمنح اللاجئين مساكن ورواتب شهرية، وهو ما نفته الحكومة التركية مسبقاً، مؤكدة أن هذه المساعدات عبارة عن منح من الاتحاد الأوروبي، ويقتصر دورها فقط على الإشراف في توزيعها. من ناحيةٍ أخرى، يرى البعض أن اللاجئين السوريين يعيشون حياة مرفهة في المدن التركية، وينتقدون سفر العديد من العائلات والأسر للداخل السوري خلال إجازات الأعياد والمواسم، ويتساءلون طالما هذه الأسر قادرة على الذهاب والعودة إلى سوريا فلماذا لا تبقى في بلادها، وتقوم بإعادة بنائها، وتخفف العبء عن تركيا.
لقد أصبح السوريون ضحايا للأخبار الكاذبة التي تنعكس سلباً عليهم، وعلى علاقتهم مع أفراد المجتمع التركي، وكشف عن ذلك تقرير نشره موقع "ميدل إيست البريطاني" في 10 ديسمبر/كانون الأول 2018، أكد أن الأخبار والمعلومات الكاذبة عن اللاجئين السوريين، أضعفت من عملية اندماج السوريين مع الأتراك، وخلقت حواجز بينهم. وذكر الموقع ما حدث في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عندما تم نشر مقطع فيديو مزيف على موقع "تويتر"، ظهر فيه رجل زعم أنه سوري جالس على قمة تمثال مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، في مدينة أديامان الجنوبية الشرقية. وجاء في تغريدات كُتبت حول محتوى الفيديو: "تم منع مهاجر سوري من قبل الشرطة والمواطنين من محاولة تحطيم تمثال مؤسس الجمهورية التركية".
تشويه صورة اللاجئ في الوعي الجمعي
دأبت بعض وسائل الإعلام، وجانب من الأعمال الدرامية التركية في الفترات الماضية على تشويه الصورة الذهنية للاجئ السوري في الوعي الجمعي التركي؛ حيث يتم تصويره على أنه الشخص الريفي الفقير الذي يمارس التسول لقضاء متطلبات يومه، وهو ما يتنافى مع الواقع؛ حيث إن الاستثمارات السورية تخطت حاجز المليار ونصف المليار دولار، إضافة إلى تأسيس ما يقرب من 15 ألف شركة سورية على الأراضي التركية.
تآكل الهوية التركية
يتخوف قطاع واسع من الأتراك من تأثير الحضور العربي في تركيا على الثقافة والتشكيلة العرقية في تركيا؛ حيث تشير الاتجاهات الديمغرافية إلى أن تركيا كانت تضم بالفعل ما يصل إلى 1.5 مليون مواطن من أصل عربي قبل الحرب السورية، لذلك يصل عدد سكان تركيا العرب حالياً إلى ما يقرب من 4.5 مليون عربي، وهو ما يشكل نحو 5.1 في المئة من مجموع سكان البلاد.
والأرجح أن كثافة الحضور العربي قد تنعكس على التركيبة العرقية والديموغرافية لتركيا، خصوصاً في ظل تنامي الهجرة المتواصلة ومستويات الإنجاب المتفاوتة بين العرقيات التركية، فعلى سبيل المثال أحدث التدفق الساحق للاجئين العرب السنّة من البلدان المجاورة تغييرات جذرية في المحافظات الجنوبية التركية لمصلحة العرقية العربية، كما هو الحال في محافظة هاطاي التي أصبحت بعد اللجوء السوري أول محافظة ذات أغلبية عربية في تركيا. وعلى نحو مماثل، كانت نسبة السكان العرب في مدينة كيليس تقل عن 1%، ولكن من المنتظر الآن أن تصبح ثاني أكبر محافظة عربية في تركيا.
التخوف التركي من التأثير العربي المتصاعد على التركيبة العرقية والسكانية في تركيا، دفع الحكومة إلى بدء السلطات بتطبيق القانون التركي فيما يخص اللافتات، “الذي ينص على نسبة اللغة التركية في اللافتات 75% و25% للغة الأجنبية. كما توجهت تركيا بكثافة نحو تعليم اللاجئين اللغة التركية إضافة إلى إصدار بعض البلديات، منها هاطاي، ومرسين، وأضنة، وإسينيورت، والفاتح، قراراً يجبر أصحاب المحال والمتاجر العربية على تغيير أسماء محالهم إلى اللغة التركية، ومنع استخدام اللغة العربية على الواجهات، وعزت البلديات هذه، وذلك في إطار حملة تستهدف مواجهة التعريب في المحافظات الحدودية التركية مع سوريا وتكريس الحفاظ على الهوية والإرث التركي.
إجمالاً يمكن القول إن هناك تصاعداً ملحوظاً في حملات العنف تجاه اللاجئين السوريين في تركيا، ومما يزيد من تعقيد الوضع تراجع الأوضاع الاقتصادية في تركيا، وتصاعد المخاوف الشعبية من تأثير الحضور العربي على الثقافة والتركية الديموغرافية في البلاد، إضافة إلى تبدل مزاج العدالة والتنمية بشأن ورقة اللاجئين، بعدما فقد بريقها وتراجعت فرص استثمارها في التأثير على سياسات القوى الدولية والإقليمية، خاصة الاتحاد الأوروبي.