مناخات التوتر التي تخيم على أجواء الشمال السوري والشمال الشرقي تلخص بوضوح تقاطع المصالح وتناقضاتها ليس في المشهد السوري الداخلي فحسب، بل وفي المشهد الإقليمي والدولي الذي وجد لاعبوه أنفسهم منخرطين فيه بدوافع مختلفة ومصالح متعارضة.
التلويح التركي بعملية عسكرية برية ضد بعض مواقع قوات "قسد" في الشمال السوري والتمهيد لها بعمليات قصف جوي متقطع، استجلبت مواقف وردود أفعال مختلفة باختلاف مبررات كل طرف، ودفعت الجميع إلى الحديث عن خيارات سياسية يمكن سلوكها تفاديا لمزيد من التدهور ودرءً لمخاطر مواجهة ميدانية لن تزيد الأوضاع إلا تعقيداً وتوترا.
ما تشهده الأروقة الدبلوماسية من محاولات حثيثة لتجنب عملية عسكرية تركية مسرحها بعض بلدات الشمال السوري ، تل رفعت وعين العرب ومنبج، حيث وجود قوات سوريا الديمقراطية بشكل متفاوت؛ توحي بأن موسكو؛ التي تخوض نزاعاً ميدانيا مع أوكرانيا، وصراعاً مفتوحاً غير مباشر مع "الناتو"على خلفية النزاع الأوكراني، تعمل باتجاهات متعددة بتعدد المعنيين الرئيسيين بأسباب التوتر في تلك المنطقة، وتسعى لتثبيت دورها كلاعب أساسي بين الأطراف كونها تحافظ على علاقات متوازنة مع الجميع ؛ سوريا وتركيا وقوات سوريا الديمقراطية، وتدرك في الوقت ذاته أن اللعب على حافة الهاوية من قبل أي طرف في ظل المعطيات الناشئة لن يخدم أهدافها هي من جهة، وقد يعرقل خطوات التفاهم اللاحقة من جهة أخرى بسبب وجود العامل الأمريكي وتأثيره على البعض.
ما يجدر التوقف عنده حيال التطورات الناشئة هو أنها تفجرت بالتزامن مع تحولات وتغيرات في مواقف الجانب التركي حيال العلاقات مع سوريا والكشف رسميا عن وجود محادثات على مستوى قادة الاستخبارات في البلدين تمهيدا لترتيب لقاءات على مستوى دبلوماسي بعد أن تحدث الرئيس التركي أردوغان بلا لبس عن استعداده للقاء الرئيس السوري في ظروف مواتية وأن "لا خلافات دائمة في السياسة". هذه التحولات التي رسمت ملامحَها الأولية مواقفُ وخطوات جدية لتقريب المسافات بين دمشق وأنقرة، وتزامنها مع ارتفاع مؤشر المواجهة في محيط جغرافي مشترك بين الجانبين، تؤكد أن سوريا عادت لتكون في دائرة الضوء مجددا، وهذه المرة بسبب عوامل داخلية متشابكة مع قضايا دول إقليمية ودول خارج الإقليم، بعد أن خلّفت الأحداث التي مرت بها البلاد جملة تحديات أمامها على الصعيد الداخلي، وكذلك على المستوى الخارجي باتجاهين : الأول دول الجوار العربي؛ شرقا العراق، وغربا لبنان، وجنوبا الأردن، والاتجاه الآخر دول الجوار غير العربي كتركيا شمال.
ظلت سوريا منذ قرن ونيف محط استقطاب وتجاذب بين القوى الإقليمية والدولية بسبب موقعها الجيوسياسي والجيواستراتيجي كونها شكلت عقدة مواصلات برية بين أوروبا وآسيا إضافة إلى موقعها على البحر الأبيض المتوسط الذي منحها ميزة إضافية على المياه الدولية. وبسبب ميزتها الجغرافية والاستراتيجية هذه، كانت على الدوام ضمن حسابات القوى الإقليمية والدولية، فتارة محط تنازع وصراع، وتارة أخرى ضمن مكونات التحالفات التي تنشأ.
قد يكون الوضع الماثل حاليا في شمالها وشمالها الشرقي جزءً إضافيا من مسيرتها التاريخية التي عاشتها في خضم النزاعات والصراعات والتحالفات التي مرت على المنطقة، لكن لابد من مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأسباب التي تَولَّد عنها الوضع الراهن، وهي الأحداث التي عاشتها منذ عام 2011 وما أفرزته من تبعات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية مثقلة بالتعقيدات والصعوبات، مختلفةٌ عن البواعث التي حكمت توجهاتها وبوصلتها في مراحل سابقة على المستويين الإقليمي والدولي، وأياً تكن طبيعة المحطة الأخيرة للتوتر المتنامي شمالا، ميدانيا أو سياسيا، فإن مجريات الأحداث والمواقف المرتبطة بها تُبرز حقيقة سياسية جوهرها أن الاستقرار في سوريا حاجةٌ حيوية لعموم الإقليم ولاستقراره، وهذا يتطلب من جميع الأطراف المعنية بالوضع السوري العمل من أجل بلورة حلول واضحة وراسخة تحفظ وحدة سوريا وسيادتها واستقلالها، وتمكّنها من العودة إلى ممارسة دورها وتأثيرها في محيطها العربي أولا وفي الإقليم والعالم تالياً .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة