الأديبة السورية مها حسن لـ"العين الإخبارية": الحياة باهتة دون حكايات
حديث مع الأديبة السورية مها حسن ما بين ذاكرتها الحلبية وإقامتها الحالية في باريس، والاحتفاء الأخير بروايتها "عمت صباحا أيتها الحرب".
رغم سعة باريس ومداها الحُر الذي تسكنه منذ سنوات، إلا أن أنفاس حلب الأنيسة، وأسطح بيوتها العامرة بالأزهار، وأطعمتها البيتوتية الدافئة، لاتزال تسكن هوى الأديبة السورية مها حسن، التي ارتبط اسمها في الآونة الأخيرة بالكثير من الألق، الذي ربما لا يستهويها كثيرا بقدر انشغالها بمواصلة تقليب تربة الحكايات وصولا إلى الجذور.
الذاكرة البعيدة لصاحبة "حي الدهشة" تُسّلم ذاكرتها القريبة، تنهل من بئرها ما يُعينها على التحليق بجناحي الحنين لما هو أبعد من الألم، وأبعد من ويلات الحرب في بلادها سوريا، فأسست مشروعا أدبيا فرض نفسه على خريطة القراءة، وترشيحات الجوائز الأدبية المرموقة بشكل لافت، كان آخرها ترشيح روايتها "عمت صباحا أيتها الحرب"، الصادرة عن دار "المتوسط"، ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد لدورتها الـ13، ذلك الترشيح الذي وصفته خلال حديثها لـ"العين الإخبارية" بأنه "باقة ورد غير منتظرة".
"العين الإخبارية" حاورت الأديبة السورية مها حسن حول هذا الإدراج والاحتفاء الجديد برائعتها "عمت صباحا أيتها الحرب"، ومسارات الكتابة لديها ما بين مدينتين وقارتين قديمتين، تحتضنان معا ارتباطا وجدانيا راسخا ويوميات جديدة، في تكوين ثري عمّر مشروعها الأدبي بمزيد من المشهدية والرؤية، على هيئة شخوص روائية قادرة على الحكي ببسالة، فتجتر ما حدث وتسخر وهي تُناطح الخراب.. وإلى نص الحوار:
- كيف تلقيت إدراج "عِمت صباحاً أيتها الحرب"ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب؟
كما قد يشعر أحدنا حين يسمع جرس الباب، وما إن يفتح، حتى يجد موظف البريد وقد أحضر له هدية غير منتظرة، أو أن يجد وردة موضوعة أمام الباب، حتى لو كانت الهدية هي وردة، أو زجاجة عطر أو قلما، فسوف نشعر بالبهجة، هكذا أحسست وأنا أتلقى خبر ورود روايتي في اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، حيث تلقيت باقة ورد غير منتظرة.
- رغم الاحتفاء النقدي الكبير بـ"عِمت صباحاً أيتها الحرب" إلا أنك أعلنت من قبل أن نشرها كان محفوفا بالقلق الكبير من جانبك، لماذا؟
يعيش الكتّاب غالباً هذا القلق، من انتقال النصّ من صاحبه، إلى ذهابه إلى الآخر، وانتهاء دور الكاتب في التدخّل في النص. ولكن لهذه الرواية خصوصية تتميّز بها عن بقية رواياتي، أنها لا تحمل أي تخييل، سوى في التقنية، أما الشخوص والأحداث فهي حقيقية. جميع الشخصيات التي وردت في الرواية هي ذاتها الموجودة في الواقع، لهذا كنتُ خائفة من عدم إنصافي لشخوصي، لأنهم من لحم ودم، ولأن الأمانة السردية تتطلب مني أن أكون على مسافة واحدة من جميع الشخصيات، كما أنني تطرّقت لتفاصيل تتعلق بتكويني النفسي والفكري، الأمر الذي يشبه حالة التعرّي والانكشاف أمام القارئ، وهذا سبب لي القلق، حيث اعتادت الكتابة العربية غالباً، وأقول هذا بحزن، على المشهدية الاستعراضية، أكثر من المكاشفة والتشريح والنقد.
- وصفت هذا العمل في أحد حواراتك السابقة بالرواية "المُربكة".. فما ملامح هذا الارتباك من وجهة نظرك؟
أن يكتب أحدنا عن حكايات حقيقية دون أن يقع في فخّ المباشرة، وأن يتمكّن من البقاء في المساحة السردية ـ الجمالية، هو الرهان الذي فرضته عليّ هذه الرواية. من أحد الآراء التي التقطتها عبر مواقع القراء، هناك شابة تقول إنها لأول مرة فهمت ما يحدث في سوريا، عبر روايتي. الوضع السوري بحد ذاته متشعب وكثير التفاصيل، حتى السوريين أنفسهم، لم يعودوا يعرفون أسماء الفصائل والكتائب العديدة المتفرّعة من جهات مقاتلة. كان عليّ إذن تقديم وجهين معاً : الوجه المتعدد للاقتتال والصراع، والوجه السردي الجمالي الذي يُمسك بالقارئ ويذكّره أنه أمام رواية، وليس أمام بحث سياسي أو اجتماعي حول أوضاع الناس في الحروب. لا أعرف إلى أي حدّ نجحت في الحفاظ والاحتفاظ بالسرد الإبداعي، عبر تقنية شهرزاد الحرب، التي أسندتها لأمي، لتقوم بمقاسمتي بالروي، وهي ترقب العالم من قبرها، لكنني شخصياً استمتعت بقيام أمي بهذا العبء، وكأنني أتخفف من برود القصّ، عبر اشتغالها هي على فصول انفردتْ بها، فمنحتْ روايتي روحاً مرحة، رغم الموت والجثث والدم، حيث كانت أمي فعلا هكذا، قادرة على السخرية من الألم، مهما كانت حدّته وقسوته.
- كتبت عن آلام حلب كما لو أنك لم تتركيها قط.. كيف تجترين الحكاية بهذا العمق من مكان آخر بعيد عن ساحة الحرب؟
أنا لستُ في مكان بعيد. أنا أحمل الهموم والمخاوف والآمال ذاتها، التي يحملها أبناء مدينتي وأفراد أسرتي. أتحدث دائماً عن منفاي الجديد الذي صنعته الحرب. بعد أن عشت قرابة 7 سنوات من المنفى الأول، وحاولت بناء حياتي الجديدة، واندمجت مع مجتمعي الجديد وانتميتُ إليه، قامت الحرب، وبدلاً من تحقيق حلمي في الذهاب إلى سوريا، رأيت سوريا تأتي في كل يوم، على دفعات، إليّ في أوروبا. لقد التقيت في أوروبا، في فرنسا وغيرها، بسوريين يفوق عددهم معارفي الذين كانوا معي في سوريا. لذلك فإن المكان يستطيع الرحيل على عكس ما يمكن تخيّله. وهذا موضوع شائك وجديد أحاول الاشتغال عليه: نحن اليوم أمام بلد صغير وجديد، سوريا مختلفة، تتشكّل في بلاد الآخرين. أنا محاطة بهؤلاء السوريين، عائلتي اليوم، والتي عانى أفرادها، كجميع السوريين من الحرب، متواجدة في أغلبها في عدة بلاد من العالم. لهذا فإن القول إنني بعيدة عن ساحة الحرب لا ينطبق عليّ، لأنني لا أعيش برأس غربي مرتاح منسجم مع المكان، بل برأس الحرب التي تشتعل حتى اللحظة في داخلي، وتدفعني ـ رغماً عني ـ إلى الكتابة.
-وبذكر المكان الآخر.. كيف تقرأين تأثير الإقامة في الغرب عليكِ ككاتبة تشتغل بالأدب؟
أنا مدينة للغرب بحرية التفكير، وحرية الانتقال، وحرية التصرّف. إن الحرية هي أهم ما يحتاجه الكاتب، وجميع المبدعين، والناس عموماً، للتمكّن من إظهار عوالمهم الداخلية، لقد منحني وجودي في فرنسا الكثير من القوة الداخلية للتعبير وإسقاط الرقيب، كما أنه علّمني فكرة التعددية وقبول الآخر، والفصل بين الموقف العاطفي والفكري، بمعنى أنه حرّرني من خوفي من نقد المقرّبين، ونقد الذات طبعاً، خشية خسارة الآخر. الأمر الذي أثّر على كتابتي، فظهرت ملامح الحرية منذ أول عمل أكتبه في فرنسا "حبل سري" الذي تعرضت له للمجتمع الكردي وعاداته وتقاليده المختلفة، وهذا أخرجني من الدائرة السورية وأدخلني في الدائرة العربية، وصار لي قرّاء من العالم العربي، من المغرب ومصر ولبنان وبلاد عربية أخرى.. وهذا دائماً بفضل تواجدي في فرنسا، وحصولي على كمية من الهواء النقي المُثري لكتابتي، كما يلحظ كثير من القراء أنني أمنح شخوصي الحرية في التعبير، حتى إن اختلفتُ معهم شخصياً، وهذا ما سماه أحد النقّاد متحدثاً عن إحدى رواياتي بـ"ديمقراطية السرد".
- في "مترو حلب" خلقت عوالم متوازية بين باريس وحلب.. هل يحمل هذا المشروع قبسا من هوامشك الإنسانية بين مدينتين؟
هناك الكثير من خبرتي الشخصية التي قمت بتوظيفها في هذه الرواية، فأنا متيّمة بحلب القديمة، التي صُنّفت من أقدم مدن العالم. لا أزال أذكر متعة الفصول التي كتبتها عن حارات حلب الساحرة، والتي كنت أفتقدها هنا في فرنسا. إذا كان البعض يتحدث عن الحب الأول كأقوى مشاعر، فإن علاقتي بتلك الأزقّة الضيّقة والجادات المبلّطة بالحجارة السوداء، وأسطحة البيوت المليئة بالأزهار، وأشكال وأنواع الأطعمة البيتوتية، وكل تلك الروائح والأطعمة والمتع البصرية، تشكّل هواي الأول، وشغفي بالمكان. كما أن باريس أيضاً ساحرة بطريقتها، وتتمتع بسمعة عالمية، وقد تألمت فيها كثيراً، مثل بطلة الرواية سارة، لأنني لم أسمح لنفسي بالاستمتاع بالمكان، لأنني مأخوذة بالمكان الأول، الذي انتصر بداخلي، بسبب كمية الألم الذي يحياه. لهذا فإن هذه الرواية بترت حالات عشتها، وأخذتها مني، لتنسبها إلى بطلاتي وأبطالي في مترو حلب. المترو الباريسي ذاته سحرني طويلاً، وكنت أحيا تجارب مدهشة في أغلب المرات التي أتنقّل فيه. لم يكن المترو وسيلة نقل عادية، بل كان عالماً متحرّكاً من البشر المتنوعين، وحكايات أسمعها بحكم معرفتي باللغة العربية والفرنسية والكردية، فأصغي لقصص يرويها الركاب معتقدين أحياناً أنهم يتحدثون بلغة خاصة بينهم. المترو كان صديقاً كريماً لي، يمنحني الثراء التخييلي، ليستحق أن يكون بطلاً رئيسياً في الكتاب، ويأخذ نصف العنوان، مقاسماً حلب التي أخذت النصف الثاني.
- كيف تضبطين ميزانك وحسّك الأدبي بحيث لا يطغى الجانب الأرشيفي/التسجيلي على الروائي والمُتخيل، أو العكس، في أعمالك التي تربط بينها خيوط الحكايات عن الحرب السورية؟
لا أعرف إذا كنت أنجح في هذا. أعتقد أنني فشلت في بعض الأحيان، وفي نفس الوقت، أحببت هذا الفشل، لأنه كان رؤية مختلفة. أعتقد أن رواياتي توصف غالباً بالتجريب، وفي كل رواية لي أحاول ابتكار تقنية مختلفة، ففي "الروايات" مثلاً، صنعت عالماً كاملاً من الفانتازيا، وكذلك في "بنات البراري". هي فقط روايات الحرب، رواياتي الأخيرة، التي وضعتني في تجريب جديد، واستمتعت بكتابتها، مع التحفّظ على لفظة المتعة، حيث تمر الكتابة بعدة مراحل، مثل نوبات الإنفلونزا، إذ كنت أصعد بمتعة وأتألم أيضاً، وهكذا يعيش الكاتب هذه الاختبارات، ويحاول أن يخرج في كل مرة، بعمل مختلف، ويتعلّم من كتاباته ذاتها، ليحدد إلى أي حدّ يمكن أن يكون مثلا وصف "التسجيلي" مسيئاً للنصّ، أو مقوّياً وداعماً له؟
-"حي الدهشة"..وقوع جديد في غرام المكان ونوستلجياته، كيف تصفين هذه التجربة؟ ونسج ملامح "الحارة" الحلبية؟
خصوصية حي الدهشة بالنسبة لي تكمن في الحارة التي كانت تنام في داخلي، وهي مزيج من حارة بيت جدي حين كنت صغيرة، وكان أهل أمي يقطنون في "حي الهلُك" الذي وردت في الرواية، ومزيج مضاف من أجواء الحارة المصرية التي شُفغت بها في مراهقتي وأنا أشاهد المسلسلات المصرية. كان هذا كله قبل دخولي عالم القراءة.لا أزال أذكر وجه الممثلة ليلى حمادة، التي ربما لا يذكرها الكثيرون، في مسلسل خان الخليلي، كما أنني، حين كبرت، لم أكتفِ بقراءة الرواية، بل شاهدت الفيلم عدة مرات، ولا يزال لديّ حلم مؤجل، أن أقيم في القاهرة عدة شهور، في إحدى الحواري القديمة، لأستعيد عوالمي النائمة.
- برأيك مع تقدم الروائي في مشروعه الأدبي، هل يظل نصيب "التجريب" في مشروعه بذات جرأة البدايات أم أنه يجنح أكثر لاستمالة القارئ بألوان مغامرة أقل؟
على العكس تماماً. حين يستطيع أحدنا أن يحقق مكانة ما في الوسط الثقافي، فإنه يشعر بالقوة أكثر، وبالقدرة على المخالفة بخوف أقل. لدي مثلا رواية "نفق الوجود" التي لم تلقَ مكانها المناسب لأسباب أجهلها. فقد كتبتها منذ أكثر من 20 عاماً، وكنت خائفة من طرحها. لكنني بعد أن بنيت اسمي خطوة خطوة عبر سنوات طويلة من الكتابة، طبعت هذه الرواية منذ 3 سنوات تقريباً، وأنا اليوم أسعى إلى المحاولة للاحتفاظ بخصوصيتي عبر كتابة متنوعة التيمات والهموم والتقنيات في كل مرة، وأظن أنني أبني علاقة مهمة جداً مع القارئ، لأن القارئ، على عكس ماورد في السؤال، هو أيضاً يشعر بالملل من الإنشاء اللغوي والتكرار، ويبحث عن " التجريب".
- ما رأيك في تعبير أدب الأقليات؟ هل تعتبرين الدفقة الكردية في أعمالك ضمن هذا النوع الأدبي؟
لفظة الأقليات تقيّدني، أشعر أن فيها حكم قيمة، ومحاولة التقليل من الآخر، عبر التحكّم بالقيمة العددية. أما عن الدفقة الكردية ـ أجد التعبير محبباً ـ فإنني موقنة تماماً، أنني أستثمر خزّاني الروحي في الكتابة، هذا الخزّان المليء بالصور والحكايات والعِبر المأخوذة والمتحصّلة من جذوري المتنوعة. إن جدتي الكردية، التي أخذت محلها في السرد في بعض رواياتي، لم تكن تعرف العربية، كنا ، نحن أحفادها، نسخر منها حين تتحدث العربية الركيكة "كما الأرمن مثلاً". حتى إن أبناء عمومتي، الذين تلقّوا تعليماً عالياً، يجهلون قواعد التذكير والتأنيث حتى اليوم، وتظهر الركاكة في لغتهم العربية، هذه "الركاكة المحببة" التي أمارسها اليوم في اللغة الفرنسية. قال لي صديق فرنسي أمراً غاية في الأهمية: "لا تحاولي أن تتحدثي مثلنا.. إن نبرتك المختلفة هي التي تميّزك وتمنح نطقك سحراً مختلفاً عن نطقنا لهذه اللغة". من هنا أشعر أن الوسط الكردي زوّدني بالكثير من الاختلاف والنقد والاحتكاك بالآخر والاصطدام معه، للإتيان بنصّ مختلف، قائم على التنوع.
- في بداية روايتك "الراويات" عبارة "أعيش حياتين"..هل تمنحك الكتابة حياة أخرى؟
بل إن حياة الكتابة هي حياتي الحقيقية. وهي التي تنقذني من إحباطات الحياة اليومية، والفشل والهزيمة... كلما ضعفت وشعرت بالانكسار والرغبة في التراجع أو الانغلاق، تهمس لي أناي الكاتبة: خلقتِ لتكتبي. تماماً كما افتتحتُ روايتي هذه بعبارة "خُلقت لأروي". أنا مدينة للكتابة، هي التي منحتني أصدقاء وأمكنة وبلادا جديدة.. لولا الكتابة، ما كان لحياتي أي طعم أو معنى، ربما كان هذا التعلّق الشديد بالكتابة، حالة مرضية، أعترف أنني حاولت التخلص منه، لكنني اكتشفت في كل محاولة، أن الحياة باهتة دون مخيلة وحكايات ولغة تتدفق في رؤوسنا، يهمس بها كائنات غامضة، تدفعنا لحب الحياة، كي ندوّن ما نسمعه ونشعر به.
- هل هناك مشروع جديد تعكفين عليه حاليا؟
من بعض الانتقادات التي توجّه إلي أنني غزيرة الإنتاج. لقد وهبت حياتي للكتابة. لهذا فأنا دائماً في حالة كتابة. لدي عشرات الكتب، بعضها منتهٍ تماماً، وبعضها يحتاج إلى قليل من الوقت لإنهائها، وفي كل مرة، هناك قاعدة سرية في داخلي، قاعدة تفرضها الكتابة ذاتها أسميها بكيمياء اللحظة، هي التي تدفعني للتركيز على عمل ما، للذهاب به إلى النشر، لا أعرف بعد، متى تتحقق هذه اللحظة في العمل القادم.
aXA6IDMuMTQ3LjUzLjkwIA== جزيرة ام اند امز