بالفيديو.. فقط في أبوظبي.. "السيدة طاولة" تسير بالكعب العالي
في معرض فن أبوظبي وضمن الجولة الحصرية للإعلاميين قبل افتتاح المعرض للجمهور، الأربعاء، كنت أتجول بين اللوحات والأعمال التركيبية لأصطدم فجأة بطاولة بيضاء مستديرة تكاد تسد أحد الأروقة.. بمجرد اصطدامي بها، وجدتها تتحرك..
"علينا أن نقاتل تعابيرنا، وألا نجعلها تتحكم بنا وبشكل وجهنا، علينا أن نفعل كل ما بوسعنا لنبدو مبتسمين دوماً. تجنبوا عقد الحاجبين، ولا تسمحوا لتلك التجاعيد بالتزايد حول العينين".. لن أنسى بسهولة هذه الجملة التي كررتها اختصاصية تجميل على إحدى القنوات التلفزيونية، مروجة فيها لأهمية البوتوكس في "كفاحنا" اليومي ضد الزمن..
قد يظن المرء أن هذه الجملة ليست إلا نصيحة تجميلية أخرى تعطيها اختصاصية أخذت على عاتقها مهمة تجميل البشر لـ"إسعادهم".. لكن كلمات الاختصاصية وإلحاحها وتشديدها على ضرورة إلغاء تعابيرنا لا تدفع إلا إلى الهلع!
في الوقت الذي كنت أستمع للاختصاصية وكنت أسأل نفسي عن معنى أن أحمل فوق جسدي وجهاً لا يعرف غير شكل واحد، وتعبير واحد.. معنى أن أحرم من قدرتي على إبراز ما أشعر به، لأني جمدت عضلات وجهي.. سرحت في وجه الاختصاصية المبتسمة طوال الوقت.. حتى وهي تشرح للمشاهد "أهمية عدم عقد الحاجبين، لأن ذلك يشوه شكلنا"، عجِزت أن تقلد ذلك الوجه في سبيل اقناع المشاهد، فضحكت وكررت "هل ترون.. أنا حقنت جبيني جيداً وحتى من باب التقليد، لن أنجح بأن أصنع تعابير غاضبة أو حزينة"!.
الفقرة التلفزيونية تلك ليست بجديدة، لكني كلما رأيت وجه سيدة أو رجل محقون بالبوتكس بشكل مبالغ فيه وبشكل غير ملامح وجهه وجمدها.. أتذكر تلك المقابلة وأعجز عن فهم الدافع وراء ما يرتكبون بحق أنفسهم.. وتبرز تلك الأسئلة البديهية التي تراود كل عاقل: ما المغزى في أن تشبه الآخرين؟ ما مقدار تميزك؟ ما معنى أن تشبه نفسك طوال الوقت؟ ما معنى أن تشكل واجهة متناسقة حد "الكمال"؟ كيف يميزك ذلك عن الأشياء؟ عن الطاولة والكرسي والجدران والتماثيل والأواني والمزهريات.. حيث لا خصوصية بين قطعة وأخرى في "الفئة" نفسها. أشياء لا وسيلة لديها لتعبر عن نفسها. ما أهمية أن أتحول إلى مادة "سوشيال ميديا" صرفة، منسوخة وملصقة عشرات ومئات المرات، بلا أي فرادة تذكر..
أستحضر كل ذلك وأنا في معرض فن أبوظبي ضمن الجولة الحصرية للإعلاميين قبل افتتاح الفعالية للجمهور الأربعاء.. كنت أتجول بين اللوحات والأعمال التركيبية لاصطدم فجأة بطاولة بيضاء مستديرة تكاد تسد أحد الأروقة.. بمجرد اصطدامي بها، وجدتها تتحرك.. لوهلة شعرت أنها أتوهم، فعدت خطوتين إلى الوراء لأتأمل من أسميتها "السيدة طاولة"، لأجدني أمام ساقين لسيدة تمشي بالكعب العالي.. لكن نصفها الثاني ليس إلا عبارة عن طاولة.
ضحكت في سري وأنا أتخيل نفسي أمام شخصية الخادمة في رسوم "توم وجيري" المتحركة التي لم نكن نرى إلا نصف جسدها.. لكن السيدة أمامي هنا ظاهرة كلها لكن بنصفين، جسد وطاولة.. ما أنا أمامه تدريب على العرض الفني الغرائبي "المشهد" للفنانة البلجيكية مييت وارلوب ويقدم يوم الجمعة.
العرض الذي يدفع المرء إلى إثارة الأسئلة حول ماهية الأشياء وماهية الإنسان.. حول تشيؤ الإنسان، امرأة كان أم رجلاً.. يجعلنا نفكر أيضاً الهويات الضائعة والبحث عن الذات بين أكوام الأشياء في عصر الاستهلاك وحاجتنا الدائمة إلى المزيد.. المزيد من كل شيء، من الجمال، والأزياء، والكماليات وكل ما يشعرنا بالاكتفاء أو على الأقل يشعرنا أننا نتفوق على آخر راقبناه وتلصصنا على حياته من أبواب مواقع التواصل الاجتماعي.
وأنا أراقبها لم أستطع منع نفسي من التفكير باختلاف جيل البوتوكس المكثف عن "السيدة طاولة".. أشياء تسير فوق قدمين.. أشياء لا تعابير إنسانية لها! هم تماما كهذه الطاولة التي تنجح سيدتها بالسير فيها بالكعب العالي وعلى سطحها صحون وفناجين وكؤوس لا تهتز ولا تقع.. تماماً كتعابيرهم.! أجساد هجينة، نصفها بشر ونصفها الآخر وجوه منتفخة.
تابعت السير خلف السيدة، أراقب تدربها.. من حيث الشكل، قد لا تختلف الطاولة عن وجوه البوتوكس.. لكن هذه السيدة التي تحني ظهرها تسعين درجة، وتنجح في تثبيته وموازنة نفسها لتسير وهي تحمل الكؤوس فوقه.. تحكي عن قدرة المرء على الاحتمال، عن القدرة على تقبل الآخر المختلف البعيد ربما عن الكمال.
وهو ما يتوقف عنده المنسق الفني لبرنامج "دروب الطوايا" الذي يأتي عرض وارلوب ضمنه، ويقول "إن الكومبيوتر اليوم لا يربك بين البشر وحسب، بل إنه يتدخل في عقولهم وأجسادهم بشكل يومي. وقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورها في إحداث تغيير جذري في الطريقة التي يرى ويصف بها الناس أنفسهم. وهذا ما جعل البرنامج يستكشف بدورته الرابعة الطرق المختلفة التي يقوم بها فنانو الأداء المعاصرون بمقاربة الجسد البشري وتمثيله وإظهار هشاشته وكينونته وموقعه اليوم داخل سياق المدن الكوزموبوليتية.
فنانون يقومون بتخيل جسد الإنسان والتفكير به وعرضه في مجتمع صار فيه الجسد جزءا من شبكة إلكترونية وافتراضية للتواصل والمعلومات، وتحول إلى عقد داخل آلة لا تتوقف عن النمو، وارتبط بأجهزة إلكترونية صارت امتداداً له.
كثيرة هي الأشياء التي أرادت وارلوب أن تقولها في عرضها الغرائبي هذا.. وقد يكون أجمل ما فيه هو تركه مبهماً لتسمح لنا بربطه بالأفكار التي نريد، وإسقاط عليه مخزون يومياتنا المعاصرة التي يعجز المرء عن فهم دفق التشيؤ فيها.