طه حسين.. بصيرة حاضرة ورفات حائرة
منذ طفولته، ومرورًا بسنوات مجده وحتى مماته، ظلت إشكاليته مع المحيطين به ثابتة مهما تغير الأشخاص وتبدلت الساحات.
ففي أيامه الأولى، سلك طريقه بأسلوب مغاير عما سار به أقرانه وأشقاؤه، بشكل دفع من حوله إلى تقويض حركته وإفساد ما يُدخل السرور عليه، حتى كانت الأحداث التي عاشها الأديب الراحل طه حسين في طفولته هي مجرد نسخة لمشكلاته ومعاركه، التي تكررت وتطورت بمرور سنوات عمره، وظل هو ثابتًا مؤمنًا بأفكاره.
في نهايات القرن الـ19، خطا الطفل طه حسين أولى خطواته داخل عزبة الكيلو التابعة لمركز مغاغة في محافظة المنيا بصعيد مصر، متحسسًا جوانب الطريق بيديه حتى قاده الشغف إلى بقعة، يطرب فيها حسن الشاعر الحضور بقصائد أبوزيد الهلالي والزناتي خليفة، وهي لحظات ممتعة دائمًا ما كانت شقيقته تفسدها عليه بإعادته حملًا إلى المنزل.
تكرار الواقعة عكست في طياتها ما يتطلع إليه الصغير، فهو ينظر للأمور بأسلوب مختلف، كما يميل إلى تغيير واقع اعتاد الآخرون على التعامل معه بشكل نمطي دون تجديد، حتى قرر في معاركه الأخرى عدم الاستسلام كما كان يمتثل لقوة شقيقته في صغره.
التحق طه حسين في عام 1902 بالأزهر الشريف بغرض الدراسة، فهي مؤسسة طالما رغب البسطاء في الانضمام إليها خلال هذه الفترة، لكن الآمال التي عقدها تبددت فور رؤيته للبيت من الداخل، فوجد نفسه يعاني من جمود تملك من المناهج التعليمية وأسلوب الشيوخ.
من هنا، استغل "عميد الأدب العربي" فتح الجامعة المصرية أبوابها، وخلع الجبة والقفطان، وانتسب إلى الصرح الجديد الذي درس فيه الحضارتين الإسلامية والمصرية، إلى جانب الجغرافيا والفلسفة والأدب، حتى أعد أول رسالة دكتوراه في الآداب، ناقشها في 1914، ما ساهم في تمهيد طريقه إلى فرنسا، حيث أكمل تحصيل علومه في باريس.
هذه المعطيات شجعت طه حسين على المضي قدمًا دون الالتفات للغير، فنجده يتناول قضايا دينية وأدبية برؤيته التي ظل مقتنعًا بها، رغم تعرضه لانتقادات لاذعة في وقتها.
لكن المبادئ التي سعى الأديب الراحل لإرسائها، بحيث تخدم جهود التنوير وتفتح المجال أمام رؤى وأفكار مختلفة، أتت ثمارها على المدى البعيد، فصرح الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، قبل 6 أعوام: "كنت وأبناء جيلى نقرأ الكتب لنتعرف على هويتنا، فمثلا طه حسين بالرغم من أنه كتب كتابًا معينًا وكان للأزهر موقف منه، إلا أننى مع ذلك أعتبره شديد الأدب مع التراث ومع رسول الله ومع أبي بكر وعمر وعثمان، ومن هذا المنطلق كنّا نعيش دائمًا مع هذه الكتب ومع هذه القامات، لأنها فعلاً تربى العقول وتكوّن الزاد المعرفي".
الطريف، أن مثل هذا الأسلوب أدخله في معارك عدة خلال سنوات عمره، ففي فترة يتعرض لهجوم الوفديين، ثم يهاجمه الماركسيون، بعدها لا تنل آراؤه إعجاب ضباط مجلس قيادة ثورة يوليو 1952، وغيرها من الاختلافات التي ظل فيها العقل والتفكير قيمة ثابتة.
إيمان الأديب الراحل بمنهجه، فرض اسمه وسيرته على فعاليات ثقافية عدة، لعل أبرزها معرض أبوظبي الدولي للكتاب، فوقع اختيار مركز أبوظبي للغة العربية عليه ليكون الشخصية المحورية للدورة رقم 31، التي أُقيمت في مايو/ أيار الماضي.
جاء اختيار مركز أبوظبي للغة العربية عميد الأدب العربي طه حسين شخصية العام المحورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022، تقديرًا لإسهاماته الكبيرة والمضيئة التي رسّخها في تاريخ الثقافة العربية.
وبرهن ضيوف المعرض، كان على رأسهم وزيرة الثقافة المصرية السابقة الدكتورة إيناس عبدالدايم، والروائي المصري عمار علي حسن، وغيرهما، على أن الأديب الراحل كان "صاحب بصيرة حاضرة في كلّ اتجاه".
ولأنه "صاحب بصيرة"، شغلت أنباء هدم مقبرته في العاصمة المصرية القاهرة اهتمام شريحة واسعة من جمهوره العربي، فأعلنت أسرته عن وجود نية -غير مؤكدة بحسب رواية حفيدته- من جانب الجهات المعنية لهدمها، في إطار مشروع لتوسيع وإنشاء طرق جديدة، بعد اكتشاف كتابة كلمة "إزالة" على الجدار الخارجي للمدفن.
ووسط متابعة كثيرين لمستجدات الوضع في هذا الشأن، أعلنت الدكتورة مها عون، في تصريحات لموقع "مصراوي" المحلي، أن الأسرة تدرس نقل رفات جدها خارج مصر، وهو ما زال معلقًا في ظل عدم تلقي الأسرة أي إخطار رسمي من جانب الجهات المعنية بشأن مصير مقبرة "عميد الأدب العربي".
aXA6IDE4LjIyNi4yMjYuMTUxIA==
جزيرة ام اند امز