يكتسب موقع المتحف أهمية كبيرة لأنه يقع في ساحة التحرير، وأيقونته نصب الحرية للفنان جواد سليم
تدور رواية "متحف البراءة" لأورهان باموق عن شاب من عائلة غنية وغريبة تعيش في إسطنبول، يقع في الحب ويدخل في علاقة فقيرة ومعزولة، وحينما يذهب حبّه سدى يجد السلوى في جمع كل ما قد لمسته محبوبته يوماً، وأخيراً يأخذ كل هذه الأشياء التي جمعها من الحياة اليومية والبطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية وأعواد الثقاب والمملحات والمفاتيح والفساتين ومقاطع الأفلام والألعاب، وذكرت حبّه المحكوم عليه بالفشل ذكرياته في أسطنبول في السبعينيات والثمانينيات التي جاب شوارعها مع محبوبته، يأخذ كل تلك الأشياء ويعرضها في متحف البراءة.
هكذا ستصبح الجدران وجذوع الأشجار وأرضيات الشوارع وسقف نفق التحرير، ونقوشات المطعم التركي، المسمى بجبل أحد، أشبه بوثائق تسجل عليها حكاية المظاهرات الاحتجاجية ويوميات الثورة وأنفاس الشهداء وأرواحهم
تتكرر الفكرة ذاتها عندما قرر شباب العراق المنتفض أن يجمعوا كل الحاجيات التي تركها زملاؤهم وأصدقاؤهم من المحتّجين، مثل لوازمهم وحاجياتهم وكتبهم وخوذهم التي كانوا يحتمون بها من القنابل المسيلة للدموع، وأوراقهم وساعاتهم، والأعلام التي كانوا يحملونها قبل سقوطهم، والخوذ والكفوف التي كانوا يستخدمونها في مسك القنابل ورميها بعيداً عن المتظاهرين، إضافة إلى "الدخانيات" القنابل الدخانية المحرمة دولياً، كل هذه الموجودات تم وضعها في نفق ساحة التحرير، وصنعوا منها متحفاً نابضاً بالحيوية، ليكون ذات يوم أحد أشهر متاحف العالم؛ لأنه متحف فريد من نوعه، ولا يشبه أي متحف آخر في العالم.
إن هذا المتحف يُخلّد أحلام الثوار في ذاكرة التاريخ كما يخلّد أحلامهم، فهو يستحق أن يكون المتحف الوحيد الذي يجسّد معاناة شعب بكامله في احتجاجاتهم ضد المحاصصة والطائفية والفساد، ولا بد من الآن عمل "كتالوج" خاص يتم فيه توثيق كل موجودات المتحف وتسجيلها؛ لأنها تتمتع برمزية عالية، وتلخص ذكريات حقبة عصيبة من تاريخ العراق، ومعاناة هؤلاء الشباب وآلامهم في العيش في العراء منذ الأول من أكتوبر الفائت وحتى الوقت الحاضر، وهم مصممون على مواصلة طريقهم بكل حزم، ولا بد من تصوير فيلم وثائقي عن هذا المتحف الفريد من نوعه، ليس في العراق بل في العالم، وتستدعي الفكرة توسيع هذا المتحف من خلال جمع حاجيات الشهداء الموجودة في بيوتهم، ومطالبة ذويهم بتزويد المتحف بهذه الأشياء التي كان الشهداء يعتزون بها، إضافة إلى ذلك كتابة سيرة حياة كل واحد منهم، وعرض صورهم الفوتوغرافية.
يكتسب موقع المتحف أهمية كبيرة؛ لأنه يقع في ساحة التحرير، وأيقونته نصب الحرية للفنان جواد سليم، ومن شأن هذا المتحف أن يصبح عنواناً ممتازاً وسط هذه البيئة الفنية والنضالية، وهو يجسّد المشاعر والأحاسيس وروح الشباب المطالبين بحقوقهم المشروعة، أتخيّل أن يكون مبنى هذا المتحف المستقبلي الذي يحتوي على ذكريات أكثر من 340 شهيداً وراء نصب الحرية؛ حيث يتمتع بحديقة كبيرة، وتكمن أهمية هذا المتحف في أنه يُعتبر النقطة الفاصلة بين الطائفية والمحاصصة والفساد وبين مفهوم المواطنة الذي رسّخه الشباب الثائر، فقد استطاع أن يزيل من الأذهان ما قامت الحكومات التي تعاقبت بعد الاحتلال على ترسيخه لأكثر من 16 عاماً.
يعني هذا المتحف -الذي تكون المعروضات الحالية نواة له- الغوص في تاريخ العراق الحديث، وهو الأكثر التصاقاً بروح العراقيين وتاريخهم؛ إذ لم يشهد العراق مثل هذه الثورة الشاملة، سيكون المتحف تجربة فريدة من نوعها في معماره المستقبلي، الذي من الممكن استيحاؤه من تصاميم المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، على شكل قوس قزح كبير يشق السماء بلون أبيض دخاني، نسبة إلى القنابل المسيلة للدموع، وبكل ألوان الطيف الشمسي. ويمكن القيام بمناظرة جماهيرية بين صفوف الشباب، خاصة المهندسين بينهم، القادرين على تصوير هيئة هذا المتحف وشكله المستقبلي، وإعداد مناظرة وطنية لاختيار أفضل تصور هندسي ومعماري له، مع مراعاة تناغمه العملي والوظيفي مع فناء ساحة التحرير؛ حيث ينسجم مع كتلة نصب الشهيد من ناحية، وكتلة الفراغ المحيط بالمكان من ناحية أخرى، ومراعاة سلامة الزائرين وتوفير مساحات لتشغيله، بما ينسجم مع خصوصيات المنطقة.
كما سيؤرخ دموع أمهات الشهداء وآبائهم بكل ما قاموا من أجل دعم أبنائهم الثائرين، ولا بد أن يضم كل فئات المجتمع العراقي وأزيائهم، ويكون لعربة التوك توك مكانة خاصة، وبالأخص تلك التي استخدامها الثوار كعربات إسعاف، معلقة به قناني الكوكا كولا والمواد التي تخفف من آلام الدخان المسيل للدموع وغاز الخردل وغيره من الغازات السامة المحرمة لقمع ثورة الشباب، وفي هذا المجال لا بد من تفعيل هذا المتحف ليكون مؤسسة ثقافية وتربوية وسياحية تضاهي الحدث السياسي والتاريخي وانعكاساته الإيجابية في ترسيخ مبادئ المواطنة ونبذ الطائفية والمحاصصة والفساد، الذي سينص عليه دستور العراق الجديد.
كما نتمنى أن يتم نقل جميع لوحات الجرافيتي التي دوّنها الثوار على الجدران إلى داخل هذا المتحف المستقبلي، وتزيين جدرانه الخارجية بالألوان البراقة التي استخدمها الشباب للابتهاج بالثورة، خصوصاً الشعارات التي تفضح الطائفية والمحاصصة والفساد، وهكذا ستصبح الجدران وجذوع الأشجار وأرضيات الشوارع وسقف نفق التحرير، ونقوشات المطعم التركي، المسمى بجبل أحد، أشبه بوثائق تسجل عليها حكاية المظاهرات الاحتجاجية ويوميات الثورة وأنفاس الشهداء وأرواحهم، ولا ضير أن نطلق عليه "متحف البراءة"؛ لأنه يعبر أيضاً مثل رواية أورهان باموق عن قصص حب الشباب الثائر، خاصة بعد أن عقد بعض الشباب قرانهم بزوجات المستقبل في هذا المكان الأيقونة، ساحة التحرير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة