هذه التفاعلات التاريخية والجغرافية والديمغرافية تدفع إلى مراجعة العلاقات ما وراء العقد القديمة
عنوان المقال هو ذات عنوان كتاب لي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت شهر يوليو عام ١٩٨٧، والذي كان جزءا من مشروع كبير لاستشراف مستقبل الوطن العربي، اثنان وثلاثون عاما مضت منذ صدور الكتاب استمر فيه "مشهد" (كانت هي الكلمة التي جرى استخدامها كبديل لكلمة "سيناريو" فلم يكن المركز ممن يقبلون استخدام كلمات أجنبية في نص عربي!) التجزئة؛ حيث لم يتحقق الكثير من "مشهد" التنسيق والتعاون، وبالطبع لم يحدث تماما الأمل العظيم في "مشهد" الوحدة الاتحادية (الفيدرالية)، واستخدام الأقواس هنا كان لتحديد أي نوع من الاتحاد مطلوب بين العرب.
هذه التفاعلات التاريخية والجغرافية والديمغرافية تدفع إلى مراجعة العلاقات ما وراء العقد القديمة، وتنظر إلى الواقع المعاصر؛ حيث النزعات القومية وتوازنات القوى تدخل إلى معادلة ما يجري خلال هذه المرحلة، وللأمر هكذا حديث آخر
وسبب الاهتمام بالكتاب بعد مرور الزمن هو أن دول الجوار الجغرافي التي حددها كانت إيران وتركيا وإسرائيل (وهذه كان لها كتاب مستقل ألفه د.أسامة الغزالي حرب) وإثيوبيا، باتت تشكل تهديدا مباشرا لأمن عدد من الدول العربية، فإيران قامت مباشرة باختراق دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان واليمن بخلق جماعات مسلحة تابعة لها مثل الحشد الشعبي وحزب الله والحوثيين، أو بالاختراق المباشر بقوات للحرس الثوري الإيراني، أو التبعية المباشرة لبعض الفصائل الفلسطينية.
أكثر من ذلك فإن إيران قامت بالاعتداء المباشر أو من خلال حلفائها من الحوثيين في اليمن على ميناء الفجيرة بالإمارات، وعلى ناقلات نفط عربية وأجنبية في الخليج، وعلى منشآت نفطية في المملكة العربية السعودية ومنشآت مدنية مثل مطار أبها في المملكة، تركيا من ناحيتها قامت بالغزو المباشر للأراضي السورية، وقدمت العون المباشر أيضا لفصائل إرهابية تعمل في دول عربية، واستضافت قوى المعارضة المختلفة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، ولم تترك فرصة لإيذاء بلد عربي إلا وانتهزتها كما حدث، وتلاعبت بحادث مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" حينما استغلت المعلومات للنيل من كل ما هو عربي وسعودي خاصة.
إسرائيل انتهزت فرصة نقص المناعة العربية وقامت بتجاوز كل الاتفاقيات الجارية معها، سواء من الطرف الفلسطيني أو الأطراف الدولية المعنية، بما فيها إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ضم الجولان، والتحضير لضم مناطق من الضفة الغربية، فضلا عن استخدام القوة العنيفة مع غزة. إثيوبيا فعلت الأمر نفسه مع مصر والسودان، حينما استغلت نشوب ثورة يناير المصرية، والانقسام الداخلي السوداني بين الشمال والجنوب، لكي تبدأ في بناء سد النهضة الذي ما لم يتم التوافق على استخدامه سوف يؤدي إلى حرمان مصر والمصريين من مياه الشرب.
ورغم هذه الحالة البائسة من تطورات تغول دول الجوار الجغرافي على المصالح العربية فإن ما حدث على قسوته لم يصل في درجات السوء ما كان متخيلا حدوثه قبل نهاية القرن العشرين، أما وأن الزمن الآن يقترب من نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فعلى الرغم من أن "مشهد" التجزئة لا يزال جاريا إلا أن الدولة العربية الوطنية صمدت في مواجهة ما كان متصورا من تقسيمات إضافية في العالم العربي تحدث داخل الدول العربية ذاتها.
وفيما عد السودان الذي انقسم إلى شمال وجنوب بتأثير من الرؤى الضيقة لحكم جماعة الإخوان المسلمين، فإن دولا عربية أخرى لم تنقسم، وصمدت دول الخليج في مواجهة موجات ما سمي الربيع العربي، ولم يصمد حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر لأكثر من عام، ورغم الغزو الأمريكي للعراق، وتدمير مؤسسات الدولة العراقية فإن العراق كما هو معروف جغرافيا ظل مستمرا، وعندما حاول الأكراد الانفصال في دولة مستقلة فإن ذلك لم يتحقق، وأكثر من ذلك فإنه وقت كتابة هذه السطور فإن الجمهور العراقي بطوائفه المختلفة خرج في ثورة جديدة، مطالبا الدولة الوطنية بالعودة، مع رفض علاقات التبعية مع إيران.
وباختصار لم يحدث قيام نظام "فارسي" تتبعه الدول العربية القريبة، وما حدث هو أن إيران ذاتها باتت تعاني ثورة على نظام ولاية الفقيه والمرشد العام. وسوريا التي عانت الكثير من التدهور والطائفية فإن السلطة المركزية فيها باتت تسيطر على أكثر من ٦٠% من الأراضي السورية وصلت فيها السلطة المركزية إلى الحدود مع تركيا، في الوقت الذي يجري فيه إعداد دستور لدولة على كامل التراب الوطني.
إثيوبيا رغم نجاحها في إقامة أكثر من ٧٠% من سد النهضة إلا أنها وبتأثير من مصر والمجتمع الدولي نزعت إلى التفاوض، وجاء إعلان المبادئ بين البلدين لكي يسلم بالطبيعة الدولية لنهر النيل، ومن ثم ما ترتب على هذه الطبيعة من حقوق تاريخية لمصر والسودان. إسرائيل وحدها هي التي نجحت في التوغل على الحقوق الفلسطينية، ولكن ذلك لم يكن نتيجة العدوان الإسرائيلي وحده، وإنما أكثر من ذلك نتيجة الانقسام الفلسطيني.
كذلك فإن قيام إقليم لشرق البحر الأبيض المتوسط تتزعمه إسرائيل لم يحدث، وإنما قام على أن تكون مصر مركزا إقليميا للطاقة نتيجة تخطيط الحدود البحرية بين مصر وقبرص، الذي أدى إلى اكتشافات للنفط والغاز تقوم عليها صناعات وشبكات لنقل الغاز في المنطقة، نقطة انطلاقها الساحل الشمالي المصري.
ولكن حالة الحقائق الآن أقل سوءا عما كان متخيلا قبل أكثر من ثلاثة عقود، لا يقلل من ضراوة الهجمات الكبيرة من دول الجوار الجغرافي على الدول العربية، ولا يعني أن المواجهة الراهنة تعفي من المتابعة الدقيقة لعلاقات العرب مع هذه الدول، فللعلاقات بُعد امتد قبيل وصول الإسلام إلى المنطقة؛ حيث تفاعلت القبائل العربية مع الفرس في الشرق، والبيزنطيين في القسطنطينية والجماعات الأفريقية الحامية على الساحل الأفريقي المطل على المحيط الهندي، وعقب وصول الإسلام امتدت رايات العرب فوق فارس القديمة ليعطوها الإسلام من دون العروبة، وكان لأتباع إيران المذهب الشيعي انعكاسات كبرى على تاريخ المنطقة وحاضرها ومستقبلها.
كما حملت القبائل التركية راية الإسلام وهيمنت على معظم الوطن العربي لأربعة قرون. وفي أفريقيا انتشر الإسلام بالتجارة والطرق الصوفية، وأوجد جماعات إسلامية قوية في الدول الأفريقية المجاورة. وخلال التاريخ الطويل للعرب ودول الجوار لم يكن هناك حدود جغرافية بالمعنى المتعارف علية الآن، ولكن مع التاريخ الاستعماري وقيام الدول الحديثة فإن رسم الحدود بين الأقطار العربية ودول الجوار أصبح يشكل واحدا من أبعاد العلاقات بينهم.
فالعلاقات التركية السورية لا يمكن استبعاد قضية لواء الإسكندرونة، الذي كان جزءا تاريخيا من سوريا الكبرى، وكذلك مشكلات شط العرب وجزر الخليج مثل البحرين وطنب الصغرى والكبرى وأبوموسى تتداخل في إطار التفاعلات العربية الإيرانية، والخلاف الليبي التشادي على إقليم اوزو جنوب الصحراء الليبية الناجم عن التاريخ الاستعماري.
وخلق الجوار الجغرافي بين العرب وجيرانهم حقائق ديمغرافية بسبب حركة الجماعات على جانبي الحدود ثم استقرار هذه الجماعات بعد رسم الحدود تمثل امتدادات ديمغرافية من حيث الصفات والسمات اللغوية والعرقية والحضارية لكل طرف. فالأكراد في شمال سوريا والعراق وإيران وجنوب تركيا يمثلون أقليات في هذه الدول، ولكنها ترنو إلى دولتها الموحدة المستقلة. وهناك أيضا أقليات عربية في إقليم "عربستان" الإيراني وفي إقليم لواء الإسكندرونة التركي، ومن ثم فهناك أيضا أقليات إيرانية في منطقة الخليج وفي العراق، كما استقرت بعض العائلات التركية في مصر والشام حتى بعد سقوط الخلافة العثمانية وانتهاء الهيمنة التركية.
هذه التفاعلات التاريخية والجغرافية والديمغرافية تدفع إلى مراجعة العلاقات ما وراء العقد القديمة، وتنظر إلى الواقع المعاصر؛ حيث النزعات القومية وتوازنات القوى تدخل إلى معادلة ما يجري خلال هذه المرحلة، وللأمر هكذا حديث آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة