"طعم الإسمنت".. فيلم يكشف مفارقات الجحيم في الحرب السورية
فيلم المخرج السوري زياد كلثوم "طعم الإسمنت" مثّل غاية الاحتراف والعمق، وهو ما جعله يحصد جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان دبي السينمائي.
لا يقدم المخرج السوري زياد كلثوم فيلما وثائقيا فقط، بل ذهب إلى تقديم فيلم غاية في القوة والاحتراف والعمق، وهو ما جعله يتفوق على كم الأفلام القوية المشاركة في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الرابعة عشرة، وينتزع باستحقاق جائزة أفضل فيلم وثائقي، وهي أرفع جائزة يقدمها المهرجان عن فئة الأفلام غير الروائية.
تجربة المخرج الهارب من جحيم الأحداث في سوريا غنية، ففي عام 2009 أنجز أول فيلم وثائقي قصير له بعنوان "أيها القلب" عن المرأة الكردية ومنع عرضه في سوريا. أما فيلمه غير الروائي الطويل الأول "الرقيب الخالد" فقد عُرض في "مهرجان لوكارنو السينمائي"، وفاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان "بي بي سي" العربي للأفلام.
في عام 2013، بعد انشقاقه عن الجيش السوري، سافر إلى بيروت، وبدأ تصوير "طعم الإسمنت"، الذي يعتبر جزءا من موجة الأفلام السورية بعد الثورة على نظام الأسد، وهذه المرة يقترب الموضوع من لبنان، حيث العمالة السورية هناك؛ إذ يعمل العديد من عمّال البناء السوريين على تشييد ناطحات السحاب، بينما تتعرض منازلهم في وطنهم للقذائف والقنابل. إنها مفارقة صادمة تستمد قوتها من القصة العميقة للبطل/ الراوي والسارد الوحيد للقصة الفيلم.
هناك حيث لا يُسمح لأولئك العمّال بمغادرة مواقع البناء فهم لاجئون وغير مرغوب بهم ولا يصرّح لهم بمغادرة منازلهم الوضيعة إلا بعد غروب الشمس وفقاً لقانون وضعته الحكومة اللبنانية. أما في الليل، فيلتفّون حول شاشة تليفزيون صغيرة ليتابعوا آخر أخبار وطنهم الذي غادروه. تسيطر عليهم مشاعر القلق والألم، بينما يعانون يومياً من الحرمان من أبسط حقوقهم الإنسانية والمهنية.
في 85 دقيقة هي مدة الفيلم يقدم المخرج حكاية شاب سوري يعمل في مجال البناء، مستذكرا حكاية والده بعد الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان يعمل في نفس المجال لترميم وبناء ما دمرته الحرب في لبنان، لكن المفارقة أن الابن يقوم بنفس المهمة، وفي نفس الوقت هناك من يدمر سوريا.
وهو في هذه الحكاية لا يقدم خطابا فنيا عاديا إنما يدمج الحلم بالواقع المر، ويقدم مرثية الأوطان التي يدمرها أهلها فيما هم يبنون أوطان غيرهم ولا يحصلون من ذلك كله إلا على طعم الإسمنت الذي لا يترك أثره على الجسد فقط، بل يدخل عميقا في الروح.
الصورة الفنية (تصوير طلال خوري) التي يقدمها الفيلم لثنائية البناء والدمار، ثنائية الداخل والخارج، السجن والبحر... إلخ، تقول ولا تترك مجالا لأحد أن يفر منها، تقدم المعاني بما يفوق الكلام، وتكرس الأحاسيس كلها دون أي تعليق، وهي تعلو على اللغة، وبذل فيها جهد كبير لتنقل المعاني التي تضمّنها الفيلم.
كما أن الموسيقى التي استخدمها المخرج بالاستعانة بموسيقى سيباستيان تيش فقد حفرت عميقا في تكريس المعنى، فهو تارة يستخدم أصوات الحفر وضرباب المطارق والشواكيش وخلط الإسمنت، وتارة أخرى يستخدم موسيقى مرعبة للأماكن التي يعيشون فيها، وتارة ثالثة يستخدم موسيقى تدمج بين الأصوات في شريط صور مميز للغاية، نقل الهموم والهواجس وحياة الإقصاء والتهميش والهجرة البائسة.
الفيلم في عرضه الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال مهرجان دبي وعبر منحه الجائزة احتفاء بالمسألة السورية، لكن ليس من باب الموقف السياسي أو إرضاء للعواطف، إنه احتفاء بالفن أيضا، فعمل كلثوم جدير بأن يكون وثيقة بصرية ضد العنصرية تارة وضد هدم الأوطان تارة أخرى وضد القبح الذي يهمش الروح ويفتك بالجسد، وهو في كل ذلك بناء فني محكم يقدم للفن ويضيف إليه.