"بونبونة".. مقاربة سينمائية لأسئلة الوجود بين أسوار السجن الفلسطيني الكبير
فيلم المخرج الفلسطيني ركان مياسي يمثل توقاً فلسطينياً فريداً تجاه البقاء، ووثيقة إدانة للاحتلال الصهيوني دون أي هتافية.
الصراع من أجل البقاء، ثيمة فلسطينية تظهر واضحة في تفاصيل الحياة اليومية التي ترصدها الأفلام السينمائية بصور شتى.
ويمنحنا المخرج الفلسطيني ركان مياسي في فيلمه "بونبونة"، المشارك ضمن مسابقة المهر العربي القصير في الدورة الـ14 لمهرجان دبي السينمائي، صورة أكثر إنسانية تحتفي بالحياة وتمجد الحب تحت ظلال الاحتلال الذي لم يكتف بمصادرة الأرض لتمتد يده لحيوات الناس ورغباتهم الطبيعية.
وخلال 15 دقيقة هي مدة الفيلم، يقدم المخرج المولود في ألمانيا، وثيقة إدانة للاحتلال الصهيوني دون أي هتافية، عبر قصة لمعتقل فلسطيني في أحد السجون الإسرائيلية، يطمح إلى لقاء زوجته وتحقيق حلمها بميلاد طفل يتوج قصة حبهما، لكن كيف اللقاء وقضبان الاحتلال هنا تصنع سياجاَ ثقيلاً يحبس القلوب قبل الأجساد؟ يجاوب لنا مياسي عبر طريقة من عمق الممارسات اليومية للفلسطينيين ليقول لنا إن إرادة الحياة لدى الأسرى وأحبائهم أقوى من محاولات المصادرة.
يمثل توق الأسير الفلسطيني وزوجته للتواصل الطبيعي المفضي للإنجاب الخيط الرئيسي لقصة الفيلم، لكن ثمة خطوطاً أخرى متفرعة تقدمها لنا الكاميرا لترصد دون إسراف، وقائع عديدة تتشابك لتنتج لنا صورة متكاملة عن الأوضاع المزرية للأسرى في سجون الاحتلال، والحياة الاجتماعية لأسرهم، في حبكة تحتفي بالذاكرة التي أضحت المغنم الوحيد لمن طردوا من أرضهم و صودرت حقوقهم في الحياة الطبيعية.
من نهاية يوم عادي لأسير في زنزانته تبدأ أحداث الفيلم، الذي يقدم لنا مخرجه صورة عامة عن الواقع داخل سجون الاحتلال، لينقلنا إلى الأسير المنهك الذي يحاول إيقاظ رغباته الطبيعية الكامنة لتجهيز نطفة منه حتى يمنحها لزوجته التي ستزوره في الصباح الباكر، لتذهب بها لطبيب التلقيح الصناعي ليحقق رغبتهما في الإنجاب، بعد أن تعذر التواصل المباشر عقب الأسر.
لكن باءت كل محاولات الزوج بالفشل، ويحين وقت الزيارة للسجن، تظهر الزوجة التي تؤدي دورها الممثلة أمل علم الدين ضمن سرب من الزوجات وأطفالهن، يتزاحمن في صفوف التفتيش لرؤية الأب، ويتم اللقاء دون أن يكون للزوج الأسير ما يقدمه لتحقيق رغبة زوجته، ينخرطان في مقابلة الزيارة التي تقضي القوانين الإسرائيلية أن تتم من وراء سياج شفاف يتيح للطرفين رؤية بعضهما دون عناق أو حتى مصافحة بالأيدي، فيما يتبادلان الحديث مع بعضهما عبر هاتف موضوع على الجانبين.
وبعد أقل من دقيقة تسأل الزوجة زوجها الأسير عما فعله لتحقيق أمنيتهما، ليفاجئها بأنه لم ينجز المهمة، وهي الصدمة التي قابلتها الزوجة بالهروب إلى الذاكرة لتستدعي مع زوجها الأسير ذكرى ليال بديعة قضياها قبل الاعتقال، وبفعل التداعي يفلح الزوج في استخراج النطفة التي يلفها في ورقة "بونبونة" حلوى صغيرة خضراء، ربما في إشارة لونية قصد بها المخرج أن يحيلنا عبرها لدلالة الفأل في الثقافة الشعبية بفلسطين.
تنهي الزوجة زيارتها لتهرول إلى الطبيب فصلاحية نطفة الزوج لاتتجاوز الـ6 ساعات والطريق إلى الطبيب طويل وشاق ومعبد بنقاط التفتيش، وفور مغادرة الباص تشغل الزوجة الظافرة مؤقت الهاتف لتحسب الفترة الزمنية المتبقية على فساد النطفة، وحولها تنطلق عشرات القصص ترويها النساء اللاتي يكتظ بهن الباص عن حيواتهن وذكرياتهن مع الأزواج والآباء والحياة المنشودة التي كانوا يخططون لها.
يلخص لنا المخرج الفلسطيني كل هذا الشجن في لقطات قصيرة وسرعان ما تنتقل الكاميرا للفضاء المحيط، الأرض المحتلة التي تتشح بالخضرة وتحتفي بحياة بنيها رغم الأغلال، لكن بالمقابل فإن أنفاس الزوجة تتصاعد داخل الباص، فالوقت تأخر ونقاط التفتيش تعمد تأخير الحافة، ولا خيار أمامها لإيقاف عجلة الزمن و المحافظة على النطفة سوى أن تتعامل معها لوحدها دون الحاجة لطبيب متخصص، وهو ماتقوم به لينهي المخرج الفيلم.
النهاية المفتوحة على الأسئلة المشرعة حول الإصرار على البقاء والوجود، ما يدفع الإنسان لابتكار أساليب تتجاوز كل الاحتمالات في سبيل تحقيق وجوده، وحاول المخرج أن يقول لنا هذه الرسالة دون هتاف أو إفراط، ليختتمها بالإصرار وشرف المحاولة، فعملية التلقيح التي قامت بها الزوجة ربما لن تجد نجاحاً، إلا أنها في النهاية تمثل تحدياً وإصراراً على اقتناص أي فرصة، وتوقاً فلسطينيا فريداً على فتح كوة أمل في جدران السجن الكبير الذي يتسع يوماً بعد الآخر، حسبما تقول كاميرا ركان مياسي في اللقطة الختامية، وهي ترصد لنا شسوع الأراضي الفلسطينية المحتلة وضيقها على أهلها في ذات الوقت.
aXA6IDE4LjIyMS4xMDIuMCA=
جزيرة ام اند امز