التياترو الكبير.. ذاكرة بيروت المهملة منذ 44 عاما
أمام المبنى القائم وسط بيروت جلست عازفتا التشيلو جنى سمعان ونايري غازاريان فوق مسرح خشبي صغير تعزفان مقطوعات كلاسيكية.
بينما تموج شوارع بيروت بعشرات الآلاف من المتظاهرين، للمطالبة بتغييرات سياسية واجتماعية، اصطف مئات اللبنانيين أمام التياترو الكبير يستمتعون بالموسيقى ويحلقون بأمانيهم عالياً لإعادة الحياة إلى الصرح الفني المغلق منذ سنوات.
وأمام المبنى القائم في شارع المير بشير بوسط بيروت بين اللعازارية وساحة رياض الصلح، جلست عازفتا التشيلو جنى سمعان ونايري غازاريان فوق مسرح خشبي صغير تشكل من صناديق الفاكهة والخضراوات الفارغة تعزفان مقطوعات كلاسيكية للألماني كاسبار كومير والنمساوي فرانز بيتر شوبرت.
وبدأت العازفتان الحفل بمقدمة "أوبرا عايدة" الموسيقية "كرسالة نريد تأكيدها أن لبنان بلد الثقافة، ولا بد أن يكون لديه دار أوبرا رسمية جامعة لكل اللبنانيين" كما قالت نايري غازاريان.
وأضافت: "لم أكن أعرف أن في لبنان صرحاً مسرحياً مهماً مثل التياترو الكبير، لقد عزفت في دور أوبرا ومسارح مهمة آخرها أوبرا أرمينيا، لكنني لم أتخيل يوماً أن أعزف في الشارع مجاناً أمام التياترو الكبير في بيروت، ويشاهدني مئات المحتجين ويصفقون لي من قلبهم".
الحفل الذي نظمته جمعية "المفكرة القانونية" غير الحكومية، أعاد طرح أسئلة عالقة دون إجابة منذ سنوات عن التياترو الكبير، الذي أغلق مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، ومفهوم المساحات العامة الثقافية المجانية التي باتت شبه معدومة في لبنان خلال السنوات الماضية.
يعود تاريخ التياترو الكبير إلى أواخر العشرينيات من القرن الماضي، حين تحول المكان من مجرد مستودع للزوارق إلى مسرح كبير بمبادرة فردية من جاك ثابت، وصمم المبنى آنذاك المهندس يوسف بك أفتيموس، أحد أهم كبار المعماريين، مطلع القرن الــ20.
صمم أفتيموس المسرح بشكل كلاسيكي لخدمة عروض فرق الأوبرا التي كانت تأتي من أوروبا، وتتميز ببهو فسيح يتفرع منه درجان عريضان يؤديان إلى مقصوراته الفخمة وغرف الممثلين الفسيحة، وبدأت العروض في 1929.
وبحلول عام 1950 تحول من مسرح إلى صالة سينما حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وأصبح ساحة للمقاتلين بدلاً من الفنانين والمثقفين.
بعد انتهاء الحرب كانت هناك محاولات لترميمه وإعادة افتتاحه أمام الجمهور بإشراف وزارة الثقافة، بمبادرة من وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة، وفنانين مثل المسرحية نضال الأشقر والمخرج الراحل نبيل الأظن، لكن المحاولات باءت بالفشل لكونه مملوكاً لشركة خاصة.
في 2011 أعلنت شركة سوليدير المالكة والمشغلة لوسط بيروت أنها تريد تحويل المبنى إلى "بوتيك أوتيل"، لكنه بقي على حاله مهملاً متروكاً للزمن ومسيجاً مع لافتات حوله كتب عليها "ممنوع الدخول"، إلى أن دخله المتظاهرون في لبنان قبل أسبوعين، معتبرين أنه مبنى تراثي ويجب أن يُفتح للشعب.
ولا تزال أجيال الثلاثينات والأربعينات تتذكر صولات عمالقة الغناء والتمثيل داخل التياترو، أمثال أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وصباح، وكذلك أمسيات شعرية لبشارة الخوري الملقب بـ"الأخطل الصغير".
صمت التياترو لم يُخترق سوى مرتين بعد الحرب، الأولى عام 1997 حين قدم المخرج المسرحي الفرنسي جيل زافيل عرضا بعنوان "تحية إلى التياترو الكبير" بالاشتراك مع ممثلين لبنانيين، محاولاً تحفيز الجمهور اللبناني على استعادة دوره الثقافي.
أما الثانية فكانت عام 1999 حين قدم المخرج المسرحي الفرنسي اللبناني نبيل الأظن مسرحية غير معروفة للشاعر جورج شحادة بعنوان "لوعة حب"، في الذكرى العاشرة لوفاة شحادة وحضرها سياسيون ودبلوماسيون وفنانون.
يؤكد المهندس والمؤرخ المعماري رهيف فياض أن "التياترو الكبير مصنف مبنى تراثي وفق وثائق سوليدير وكتاب (انبعاث بيروت) للكاتب أجنوس كيفين".
وأضاف: "استعادة التياترو قصة رأي عام، والشعب وحده قادر على إعادته إلى وظيفته الحقيقية كواحد من أهم دور الأوبرا في العالم".
ويسترجع محمد (75 عاماً) الذي حضر الحفل أمام التياترو، الأحد، ذكرياته مع المكان، قائلاً: "كان التياترو في شبابنا منارة، وهو يمثل لجيلنا ذاكرة بيروت ما قبل الحرب ورومانسيتها، واليوم أتيت لأستعيد مدينتي من خلال هذا الحفل".
قال المحامي كريم نمور، الذي قدم الحفل وأسهم في تنظيمه ضمن فريق عمل (المفكرة القانونية): "الهدف من هذه الفعالية إعادة مفهوم المساحات العامة والثقافية على خريطة النقاشات العامة ودورها في تطوير المدن وإحيائها".
وأضاف: "في المخطط الذي رسمته الشركة المالكة للتياترو بأن يصبح فندقاً ليذوب بالهوية النيوليبرالية للعمران الذي شهدته بيروت بعد الحرب، تتفكك هوية هذا الصرح المصنف تراثياً، ويتهاوى دوره الأساسي بأن يكون جامعاً ومكاناً للقاء والحوار الثقافي، وهو ما لا يشبه طبيعة بيروت ولا تاريخها".
وتابع: "فكرتنا من هذا الحفل أن نعطي بعض المعالم الأساسية في المدينة هوية جديدة تتماهى مع الثورة أو الانتفاضة، هوية شعبية ليتحول التياترو إلى مركز ثقافي مجاني متاح لجميع المواطنين".
وتساءل: "ما قيمة المدينة في ظل تغييب إرثها الثقافي ومساحاتها الثقافية؟ وكيف يمكن لسكان المدينة أن يستعيدوا تلك المساحات وأن يدافعوا عن مبانٍ وأماكن باتت جزءاً من ذاكرتهم وحياتهم الجماعية؟ وهل لمالك العقار أن يحدد كيفية استخدام عقاره بمعزل عن بيئته وتاريخ تلك البيئة، فيهدم ويشيد المباني عليه متى يشاء؟".