قبل أيام عادت زوارق البحرية الإيرانية إلى اتباع هذا الأسلوب باقترابها مسافة "خطيرة" من إحدى السفن العسكرية الأمريكية
مرَّ حوالي العامين على عدم حدوث أي احتكاك بحري من قبل الزوارق الحربية الإيرانية بالسفن العسكرية الأمريكية في مياه الخليج، وذلك منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب في شهر تموز/يوليو 2018، انتهاء ما وصفه بـ"تهديدات وتحرشات البحرية الإيرانية بالسفن الأمريكية في مياه الخليج"، معتبرا حينها أن سياسته في مواجهة إيران قد أثمرت ذلك .
قبل أيام عادت زوارق البحرية الإيرانية إلى اتباع هذا الأسلوب باقترابها مسافة "خطيرة" من إحدى السفن العسكرية الأمريكية وفقا لما أعلنه الجيش الأمريكي، فما الذي يدفع طهران إلى طرق هذا الباب مجددا؟ وهل من دلالة للزمان والمكان لهذه العملية؟ هل هي مجرد استعراض عضلات أم أنها مسعى جدي لاستفزاز الجانب الأمريكي واختبار ردود أفعاله؟ وإلى أي مدى يتقاطع هذا السلوك مع هدف السلطات الإيرانية بث رسائلها إلى جمهورها الداخلي؟ هل هي محاولة إرضاء لمؤيديها من المليشيات الخاضعة لها في العراق الذين يطالبون بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي على خلفية مقتل قاسم سليماني، وبالتالي تشجيعهم على مواصلة استهداف بعض المواقع الأمريكية في العراق؟
لا تنفصل المضامين التي ينطوي عليها التحرش الإيراني عن مجمل عناصر المشهد بينهما في بعض ساحات الاشتباك في المنطقة وهي ساحات منافسة وصراع بين الجانبين.
لا تبدو عملية التحرش الإيرانية تلك خارج إطار الاستراتيجية الإيرانية التي تعمل بها طهران ضد واشنطن، فمثل هكذا عملية لا يجري تنفيذها بردات فعل فردية، ولا هي وليدة الصدفة المحضة، ذلك أن قطع الأسطول الأمريكي منتشرة جهاراً نهاراً في مياه الخليج وغيرها من الأماكن على امتداد العالم، وعلى مرأى عدسات المراقبة الإيرانية منذ أمد بعيد، فلماذا تجاهلتها الزوارق العسكرية الإيرانية طيلة تلك الفترة؟
لا تنفصل المضامين التي ينطوي عليها التحرش الإيراني عن مجمل عناصر المشهد بينهما في بعض ساحات الاشتباك في المنطقة وهي ساحات منافسة وصراع بين الجانبين، ورغم انهماك كل من السلطات الإيرانية والسلطات الأمريكية في غمار المواجهة مع وباء كورونا إلا أن تحديات الفيروس الجدية والخطيرة لم تؤثر كما يبدو على خطط إيران في المضي قدما بجدول أعمالها المرسوم ضد الأمريكيين، وتحديداً استراتيجيتها بعيدة المدى التي أطلقتها في خضم حالة الهيجان التي انتابتها بعد مقتل قاسم سليماني، والرامية من حيث النتيجة إلى إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة كما يصرح بذلك قادة إيران .
ليس بعيداً أن تكون عملية التحرش الإيراني بسفن أمريكية جزءاً من مخططها لإعادة توجيه الأنظار مجددا إلى مسألة المواجهة مع واشنطن في هذا التوقيت؛ فلربما اعتقد المسؤولون الإيرانيون أن انشغال إدارة ترامب بمعركتها مع كورونا ومضاعفاتها على جبهات الداخل والخارج من جهة، وكون العام الجاري عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية من جهة أخرى؛ يمكن أن يشكّلا فرصة كبيرة لهم لتسجيل نقاط ولتحقيق غايات وأهداف عملية على أرض الواقع ومعنوية أكثر مما لو كانت الإدارة الأمريكية في وضع مريح، متجاهلين أن قرارات الحرب في حالتي الدفاع أو الهجوم تخضع، في جميع دساتير الدول، لاعتبارات الأمن القومي وحماية مصالح البلاد العليا فقط بصرف النظر عن أي استحقاقات انتخابية أو أحداث طارئة.
وهنا يمكن التكهن بأن ما جرى في مياه الخليج لا يبتعد في جانب منه عن كونه رسالة إلى الداخل الإيراني أيضا، فالنظام الإيراني مأزوم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قبل جائحة كورونا بزمن بعيد، واستعادة نهج وشعارات المواجهة مع أمريكا يمكن أن تُبقي دائرة التحديات الداخلية في أضيق نطاق، وهو ما عبرت عنه المواقف والتصريحات الإيرانية على المستويين السياسي والعسكري غداة عملية الاحتكاك البحري بتحميل الجانب الأمريكي مسؤولية التوتر في المنطقة بسبب وجودها العسكري، وهي نغمة ولازمة إيرانية باتت معتادة.
يضاف إلى ذلك سعي طهران لزيادة الضغط على الأمريكيين وابتزازهم بالتزامن مع تعرض مواقع عدد من قواعدهم العسكرية في العراق لقصف صاروخي تكرر أكثر من مرة، قابله رد أمريكي في بعض الحالات استهدف مواقع بعض المليشيات التابعة لإيران في العراق وعلى الحدود العراقية السورية.
علاوة على أن استحقاقات مهمة على الساحة العراقية متعلقة بمسألة إنهاء الاستعصاء السياسي والحزبي بشأن تشكيل حكومة عراقية، والدعوات من قبل حلفاء إيران من الأحزاب والقوى العراقية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق قد تكون هي الأخرى أوحت للجانب الإيراني باقتناص هذه الفرص واستفزاز واشنطن وممارسة ضغوط عليها في أكثر من جبهة على أمل انتزاع تنازلات منها لمصلحة إيران سواء في ملفاتها الداخلية المرتبطة ببرنامجها النووي والعقوبات المفروضة عليها أو على مستوى بعض القضايا الإقليمية التي تتناقض مصالحهما حيالها، بحيث تتمكن طهران من الحصول على بعض المكاسب الذاتية على حساب بعض أوراقها الإقليمية.
الموقف الأمريكي الذي اتسم بضبط النفس واكتفى بما قاله وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو "تقييم أفضل طريقة للرد" لا يعني طي هذه الصفحة الإضافية من صفحات دفتر الاستفزاز الذي تمارسه طهران بين الحين والآخر، مما يرشح إمكانية التصعيد ثانية في مياه الخليج، خاصة في حال كررت الزوارق الحربية الإيرانية تحرشاتها المباشرة كما حدث، وغير المباشرة عبر وكلائها من المليشيات العراقية التابعة لها .
ليس من شك في أن لجوء طهران مجددا إلى سياسة التحرش بالأمريكيين واستفزازهم في مياه الخليج تندرج في سياقين؛ الأول: التلويح لإدارة ترامب بأنها مستعدة للاستمرار في سياسة المواجهة المباشرة وغير المباشرة بالتوازي مع التلويح باستعدادها للجلوس على طاولة التفاوض، والثاني: سعيها للتذكير بأنها لاعب مهم في تلك المنطقة أصالة عن نفسها ونيابة عبر أدواتها ومليشياتها، ولابد لواشنطن، بحسب وجهة نظر طهران، أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار إذا ما أرادت أن تصون مصالحها في عموم المنطقة، لكن هذه السياقات الإيرانية لا تأتي بجديد أو استثنائي، والاحتكاكات غير البعيدة بين الجانبين ماثلة في الأذهان، وقد أفصحت في كل مرة كيف أدت حسابات النظام الإيراني وسياساته غير المدروسة إلى نتائج عكسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة