تبدو طهران أمام لحظة مفصلية من تاريخها، تستطيع إن أبدت حسن النوايا وترجمتها التزامات وتعهدات أن تعيد ترميم علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي
لم يتبقَ أمام طهران من خيارات تسعفها في ترتيب مناورات إضافية أو تمنحها القدرة على رفع سقف التحدي في وجه المجتمع الدولي.. كثير من الوقائع الماثلة اليوم التي أسهمت السياسة الإيرانية في تركيبها وإنتاجها يصب في سياق حصادها نتائج تلك السياسات..
تبدو طهران أمام لحظة مفصلية من تاريخها الراهن، تستطيع، إن أبدت حسن النوايا وترجمتها التزامات وتعهدات مع المجتمع الدولي، أن تعيد ترميم علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بحيث يكون بوابتها باتجاه واشنطن وعموم المجتمع الدولي وصياغة اتفاق جديد يحقق مصالح الأطراف كافة
أخفقت طهران في تسويق قرار واشنطن بالانسحاب من الاتفاق النووي على أنه متهور.. الرئيس ترامب وإدارته يعتبران الاتفاق ناقصاً.. قبل تخلي واشنطن عن التزامها بالاتفاق وبعده بفترة وجيزة تبينت ملامح القرار الأمريكي.. طهران لم تتوقف عن التصعيد.. مروحة سياستها وسلوكها المهددة للمصالح الأمريكية اتسعت بطريقة مباشرة وغير مباشرة عبر استهداف مصالح حلفائها في المنطقة، برامج التصنيع العسكري والصاروخي تضاعفت وضاعفت معها قلق شركائها في الاتفاق النووي من الأوروبيين قبل غيرهم.. الرئيس الأمريكي تحدث بوضوح عن الرغبة في صياغة اتفاق جديد مع إيران يكون قابلاً للحياة والاستمرار يشمل جميع الملفات النووية والصاروخية وتلك المتعلقة بنفوذ إيران الإقليمي.. النظام الإيراني بات يتحرك في دائرة مغلقة، داخلياً يعيش على صفيح ساخن بسبب حالة الغليان الشعبي الكامنة والمقموعة بعنف صريح دون أن يتمكن من محو جذوتها رغم سحق حركتها الشعبية مرات عدة، الاقتصاد يتهاوى، سلم الصادرات كما الواردات بات في أسفل القائمة..
التبادل التجاري بشكل عام، خصوصا مع أكبر شركائه التجاريين، وهو الاتحاد الأوروبي يلامس أدنى مستوياته لأول مرة منذ عقود.. نفطه لا يجد طريقه إلى أسواق العالم وخرج من حسابات مداخيل الدولة.. النظام يبدو عاجزاً ولم يعد قادراً على إنتاج حالة إصلاحية تصب في مصلحة مواطنيه.. تعمّق الشرخ مع قواعده.. خارجياً لا تبدو حاله أفضل، ما كان يعتقده أنها ساحات خلفية لنفوذه ومشاريعه وأوراق مواجهة ومقايضة في البازارات الدولية بدت عكس ذلك، ارتدّت عليه، ساحاتٌ تفاعل بعضها مع محنة شعبه الداخلية، وتقاطع بعضها مع نزعة الانعتاق التي ينشدها الشعب الإيراني في الداخل، في العراق وفي لبنان نفوذه يواجه تحديات وجودية، في سوريا يتعرض نفوذه لضربة مزدوجة بفقدانه القدرة على التمدد والاستئثار بساحات البلاد، كما كان وكما يسعى، بسبب تراجع إمكاناته المالية من جانب، وتوسع النفوذ الروسي في سوريا وعبرها إلى دول الإقليم والعالم بما فيها المناهضة لسياسة ونهج إيران من جانب آخر.
هل يلتقط النظام الإيراني الفرصة المتاحة من الأوروبيين ويتراجع عن خطواته التصعيدية التي لجأ إليها منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق خصوصا في برنامجه النووي؟ هل يتمكن من استثمار ثقل الأوروبيين، شركائه في الاتفاق النووي، في إعادة ترتيب وإنجاز اتفاق جديد يلبي رغبات ومطالب واحتياجات كل الأطراف بما فيها طهران وواشنطن ويحقق مصالح القوى الدولية والإقليمية؟ هل تمتلك طهران الإرادة السياسية المخلصة تجاه الشعب الإيراني الذي يدفع أثماناً باهظة، جراء سياستها، من قوت يومه وكرامته ومستقبله وأبسط حقوقه، وتتنازل عن نزعتها العدائية من جهة، وتطمئن العالم وتنزع هواجسه من جهة ثانية لمصلحة هذا الشعب؟
ضمن إطار هذه اللوحة يتحرك الأوروبيون بعد أن أعادوا تفعيل "آلية فض النزاع المنصوص عليها في بنود الاتفاق النووي ذاته"، التي تنص على إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بقرار من مجلس الأمن الدولي في حال عدم وفائها بالتزاماتها وعدم تبديد مخاوف شركائها خلال مدة ثلاثين يوماً.. مصالح كثيرة ومشتركة تجمع إيران بالأوروبيين، تجارية واقتصادية وعسكرية وغيرها.. تبدو طهران أمام لحظة مفصلية من تاريخها الراهن، تستطيع، إن أبدت حسن النوايا وترجمتها التزامات وتعهدات مع المجتمع الدولي، أن تعيد ترميم علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بحيث يكون بوابتها باتجاه واشنطن وعموم المجتمع الدولي وصياغة اتفاق جديد يحقق مصالح الأطراف كافة، تحول يتطلب تنازلات حقيقية وجدية بدءا بسياساتها الإقليمية مروراً بتعهداتها النووية وصولاً إلى برامج تصنيعها العسكرية والصاروخية، تنازلات ربما لم تكن قد خطرت ببال قادة إيران قبل هذه المرحلة.. الأوروبيون يحاولون إعادة بناء الثقة مجدداً بين طهران وواشنطن ويؤكدون ضرورة قيام إيران بخطوات ومبادرات عملية وملموسة يمكن البناء عليها وتبنيها والدفاع عنها أمام الأمريكيين، بالمقابل يعمل الأوروبيون على إحداث توازن بين مصالح الأطراف جميعها الأمريكية والإيرانية والأوروبية وتقليص الفجوة بين مطالب إيران والولايات المتحدة ضمن مهلة زمنية محددة في آلية فض النزاع.
اللعب على الوقت، والمماطلة، لا يبدوان في مصلحة إيران بعد الآن، واشنطن نجحت في تحقيق إجماع دولي ضد طهران بعد أن أقنعت الأوروبيين برؤيتها، بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي ستكون أقرب إلى الولايات المتحدة وسياستها، الوضع الداخلي الإيراني ليس على ما يرام على مختلف الصعد، علاقات إيران الخارجية مأزومة.. فرصة المفاوضات مع الأوروبيين مدخل أساسي وربما وحيد لطهران لتأمين شروط وظروف مناخ متوازن للتفاوض مع واشنطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة