إن الجمع بين الخطاب الديني المتطرف والثورة الرقمية، هو الذي أنتج لنا ما نعانيه اليوم في عدة محطات إقليمية وعالمية،
من بين أهم العوامل المؤثرة والمُغذيّة لخطاب التطرف العنيف، ما اصطلح عليه بـ«الثورة الرقمية»، والتي أنتجت شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ومعلوم أن الحديث عن الثورة الرقمية وثورة الاتصالات يندرج فيما يُصطلح عليه بالجيل الثالث من الثورات المعرفية الكبرى التي عرفتها البشرية: الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، ثم الثورة المعرفية التي نعيش في ذروتها اليوم، مع الثورة الرقمية ضمن ثورات أخرى مُصاحبة، وأفرزت مجموعة من المفاهيم المصاحبة، وفي مقدمتها مفهوم «القوة الناعمة» بتعبير «جوزيف ناي». ومن المفاهيم المتفرعة بدورها عن مفهوم «القوة الناعمة»، أو مفهوم «القوة الإلكترونية»، ويُفيد، حسب جوزيف ناي، «القدرة على الحصول على النتائج المرجوة من خلال استخدام مصادر المعلومات المرتبطة بالفضاء الإلكتروني، أي القدرة على استخدام الفضاء الإلكتروني لخلق مزايا، والتأثير في الأحداث المتعلقة بالبيئات الواقعية الأخرى وذلك عبر أدوات إلكترونية».
هناك عدة مخارج لمواجهة التطرف العنيف، وخاصة المخارج السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية وغيرها، ولكن مقتضى الثورة الرقمية، يُفيد بأن المواجهة الرقمية تعتبر اليوم من أهم المواجهات، خاصة أن هذه الثورة تسببت في خلخلة المشهد الديني والثقافي لدى شباب المنطقة.
إن الجمع بين الخطاب الديني المتطرف والثورة الرقمية، هو الذي أنتج لنا ما نعانيه اليوم في عدة محطات إقليمية وعالمية، أي توقف العديد من الأخبار والمعطيات ذات الصلة ببعض قضايا العنف والتطرف والإرهاب في عالمنا المعاصر عربياً وإسلامياً، وحتى غربياً، والتي أصبحت مرتبطة بتأثير ودور هذه الثورة في وقوع هذه الأحداث، وهذا ما أصبحت تنتبه إليه مجموعة من الدراسات والأبحاث حول الظاهرة، ولو أن الاشتغال الجماعي عليها ما زال متواضعاً في المنطقة، إما بسبب عدم الوعي الكافي والشامل بأدوارها، أو أننا إزاء وعي قائم، ولكن لم يتم تفعيله عبر تنظيم مؤتمرات نوعية، تتضمن مداخلات علمية شاملة ودقيقة ومفصّلة لتسليط الضوء على تأثير وأدوار الثورة الرقمية على انتشار التطرف، بما فيه التطرف العنيف، وهو التطرف الذي تعاني منه العديد من دول المنطقة بالأمس واليوم، بل ستبقى مُعرّضة له، طالما بقيت أسبابه قائمة، دون التفاعل النظري والعملي معها، عبر القراءة والتفكيك أولاً، واقتراح البدائل ومخارج المواجهة ثانياً.
وتزداد إلحاحية هذا الاشتغال اليوم إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يُميز الفضاء الرقمي، وفي مقدمة هذه المُميزات، أنه أصبح ساحة للتوظيف والتأثير، كما أنه ساهم في تكسير قواعد الصناعة في كل مجالات الحياة، وأحدث طفرة في هذا المجال وليس ثورة وحسب، مخلخلاً مجموعة من القواعد.
كما أن مُستجدات العالم الرقمي، وخاصة الجيل الثاني من شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) أتاحت منابر واسعة للنقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار، وحشد الجماهير لمناصرة قضية من القضايا، أو لتكوين رأي عام حول القائم منها، أو، كما هو الحال مع التطرف العنيف، تغذية خطاب العنف والإرهاب، خِدمة لمن يقف وراءه، في هذا المجال أو غيره.
على صعيد آخر، لا تكمن أهمية هذه المواجهة في صيانة إنسان مناطق بؤر الصراع، ولكن الهدف هنا يهم العالم بأسره، لأن وظيفة الأديان الحضارية هي تحقيق الشهود الحضاري ببناء العمران والإنسان على منهج السلم والتدافع الإنساني تحقيقاً للأمن المجتمعي.
صحيح أن التطرف العنيف ظاهرة عالمية، وله أسباب عديدة، يمكن أن تدفع إليه أفكار دينية أو علمانية أو قومية أو سياسوية شعبوية، كما يرتبط كذلك بالظروف الاجتماعية السياسية التي يتفاعل في ظلِّها الأفراد مع ما يعِدُّونه قمعاً أو تهميشاً أو ظلماً كبيراً، ولكن يتضح اليوم أن التطرف العنيف الديني هو السائد، وهو الأكثر حضوراً والأكثر إثارة، مقارنة مع باقي أنماط التطرف، القومي أو العلماني أو غيره، وهذا ما كشفت عنه العديد من التحولات والأحداث التي تمر بها المنطقة، لعل أحدثها أحداث الحراك.
وصحيح أيضاً أن هناك عدة مخارج لمواجهة التطرف العنيف، وخاصة المخارج السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية وغيرها، ولكن مقتضى الثورة الرقمية، يُفيد بأن المواجهة الرقمية تعتبر اليوم من أهم المواجهات، خاصة أن هذه الثورة تسببت في خلخلة المشهد الديني والثقافي لدى شباب المنطقة، وأصبح التأثير عليهم عبر الفضاءات الرقمية، أسهل وأيسر بكثير اليوم، مقارنة مع العقود السابقة.
أمام تفشي ظاهرة التطرف العنيف بين صفوف شبابنا، نبادر في طرح التساؤلات التالية:
ــ ما هو واقع وأداء المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية المنخرطة جدياً في بلورة ثقافة السلم منهجاً وفكراً، وتفكيك خطاب التطرّف العنيف، عبر الفضاء الرقمي، في الشق الخاص بتكوين القيادات الدينية الشبابية منها على الخصوص؟.
ــ ما هي أهم العوائق التي حالت دون أن تكون المواجهة الرقمية لخطاب التطرف العنيف في مستوى تطلعات حكومات وشعوب المنطقة، أمام هول التحديات الرقمية من جهة، وفورة المواقع الدينية المتطرفة، والسائدة في الساحة الإسلامية والعربية والفارسية؟.
ــ ما هي المخارج العملية للتوفيق بين عمل التقنيين المتمكنين من أحدث التقنيات الرقمية، وخطاب أهل الدعوة المعنيين بالتصدي لخطاب التطرف العنيف؟.
لعل المتابع لأهم التجارب الميدانية والمبادرات المؤسساتية الوطنية والدولية لمواجهة التطرف العنيف تربوياً وتعليمياً، مع التوقف عند نتائج «مذكرة أبوظبي حول الممارسات الجيدة للتعليم ومكافحة التطرف العنيف» (سبتمبر 2014)- مركز هداية-؛ «مبادرة معالجة دورة حياة التطرّف المؤدي إلى العنف» (سبتمبر2015 )؛ «المنتدى العالمي ضد الإرهاب بقمة البيت الأبيض حول مكافحة التطرّف العنيف» (فبراير 2015)؛ «مؤتمر جنيف الأممي بشأن منع التطرّف العنيف المنعقد من طرف الأمم المتحدة بالشراكة مع حكومة سويسرا الاتحادية» (أبريل 2016) و "مؤتمر أبوظبي الدولي لتجريم الإرهاب الإلكتروني" (مايو2017)، يخلص بحتمية توحيد جهود الدول في مكافحتها للتطرف، وبتعجيل استصدار تشريعات دولية كفيلة بسد الفراغ القانوني في مجال مكافحة الإرهاب الإلكتروني، وإنهاء حالة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها اليوم كثير من الناشطين الإرهابيين على الإنترنت من خلال اعتماد معاهدة أممية- ملزمة للدول- تجرّم الإرهاب الإلكتروني، وتعاقب الدول الراعية له.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة