"الإرهاب الأبيض" جاء من جماعات "القومية البيضاء" التي تظن أن لونها يعطيها نوعا من التميز العرقي في مواجهة أجناس أقل شأنا
هل يوجد في العالم إرهاب حسب اللون أبيض أو أسود أو أصفر؟، والإجابة هي أن نوع الإرهاب وأيديولوجيته يخلق اسمه، فالجماعات الإرهابية التي ارتدت رداء الإسلام والدين منها براء من الإخوان المسلمين حتى "داعش" و"بوكو حرام" عرفوا بـ"الجهاديين"، والذين ارتدوا رداء الدين المسيحي والمسيحية منهم براء عرفوا بـ"الصليبيين"، الماركسيون منهم أطلق على بعضهم "لون أحمر" هذه المرة فكان الجيش الأحمر الياباني، وكانت هناك أكثر من منظمات إرهابية سميت اللواء الأحمر.
عندما يقوم "الإرهابي الأبيض" بالتركيز على المباني الفيدرالية كما حدث في "أوكلاهوما" أو مراكز التسوق المزدحمة كما حدث في "إل باسو" أو في الميادين العامة التي يلتقي فيها الشباب ليلة السبت من كل أسبوع فإن نتائج الخوف الاقتصادية والاجتماعية تصبح حقيقة واقعية حتى ولو لم تتناسب مع حجم الخسارة.
"الإرهاب الأبيض" جاء من جماعات "القومية البيضاء" التي تظن أن لونها يعطيها نوعا من التميز العرقي في مواجهة أجناس أقل شأنا من ألوان أخرى، جذورها المعاصرة تعود إلى الأحزاب الفاشية والنازية الأوروبية بين الحربين العالميتين والتي ظنت أن لديها تفوقا عنصريا من نوع أو آخر؛ وحاليا فإنهم ينتشرون في القارة الأوروبية وشمال أمريكا وأستراليا وكما عرفنا مؤخرا "نيوزيلاند"، هؤلاء يعتقدون أن بياضهم يعطيهم ليس فقط تفوقا عنصريا على الأجناس الأخرى، بل إنهم بحكم التركيب الجيني لديهم مميزات خاصة في الحكم والهيمنة على الألوان الأخرى.
ومن الممكن أن نعود إلى ما هو أقدم زمنا من القرن العشرين، فقد برزت جماعة "الكو كلوكس كلان" العنصرية البيضاء بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، حينما هزمت جيوش الشمال الفيدرالية الجيوش الجنوبية الكونفدرالية، واستسلمت الأخيرة فتشكلت هذه الجماعات لقهر من جرى تحريرهم من العبيد ومنعهم من ممارسة حقوقهم الدستورية الجديدة بعد تعديل الدستور الأمريكي (التعديلات ١٣ و١٥ و١٦)، وإعطاء الحقوق المتساوية للمواطنين الأمريكيين بغض النظر عن اللون والعرق بما فيها حق التصويت في الانتخابات.
هذه الجماعات عمليا نجحت في قهر الأمريكيين من أصول أفريقية على مدي قرن كامل بوسائل أخرى حتى أقر الكونجرس الأمريكي قانون الحقوق المدنية خلال الستينيات من القرن الماضي والذي بمقتضاه بات من غير الممكن منع السود الأمريكيين من دخول المدارس أو الجامعات أو النوادي الاجتماعية أو المؤسسات والمركبات العامة.
تغيرت الأحوال العامة في الولايات المتحدة وأوروبا كثيرا خلال العقود الأخيرة، وانكمشت الجماعات الفاشية بأنواعها المختلفة ولكنها لم تختف تماما، وخلال الأعوام الأخيرة فإنها عادت إلى المجال العام من خلال أجهزة الإعلام الإلكترونية وبعض الأشكال التلفزيونية.
ومما ساعد على تواجدها مجموعة من التطورات الدولية والإقليمية التي دفعتها إلى المجال الانتخابي ومساندة المرشحين علنا، فوصل بعض من ساندوهم إلى سدة الرئاسة لمجلس الوزراء في عدد من الدول مثل المجر وبولندا، ورئاسة الجمهورية في عدد آخر مثل البرازيل والولايات المتحدة.
وكان أول أسباب ظهورهم ظاهرة "العولمة" التي دفعت إلى المجال العالمي بألوان كثيرة من أجناس العالم في شمال العالم وجنوبه، وشرقه وغربه، وجاءت الحركة في عمومها في ظاهرة هجرة ملايين من البشر من الجنوب إلى الشمال.
وكان ثاني الأسباب أن الهجرة ارتبطت بالتطورات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب ما سمي بـ"الربيع العربي"؛ وحدوث الحروب الأهلية التي خلقت فراغا سياسيا واستراتيجيا كبيرا نجم عنه تدخلات دولية وإقليمية وحروب أهلية دفعت بملايين من البشر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، وفي أمريكا الشمالية فإن الظروف الاقتصادية التي ألمت بفنزويلا ودول أمريكا الوسطى دفعت بموجات للهجرة عبر المكسيك إلى الولايات المتحدة وكندا.
هذا المشهد أعطى المرشحين الشعبويين فرصة لاستغلال مخاوف الجماهير من "الغزو" الجنوبي من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية لسلب ثرواتها.
وكان ثالث الأسباب أن التطورات التي جرت في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن الحالي، وما واكب بدايته من أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠١١ في الولايات المتحدة، وما تلاها من موجات إرهابية شملت العديد من دول العالم ولدت حالات من الخوف والفزع لدى الدول الصناعية المتقدمة مما رأته ثقافات مغايرة وأجناسا مختلفة.
الأسباب الثلاثة، وإن لم تخلق ظاهرة "القومية البيضاء" فإنها أعطتها دفعة قوية وادعاء لممارسة الإرهاب الذي كان آخر أحداثه ما جرى في الولايات المتحدة في مدينة "إل باسو"، تكساس، و"دايتون"، أوهايو حيث قام منتمون إلى جماعات "المتفوقين البيض" بإطلاق النيران على الملونين من المواطنين في الأسواق والميادين العامة؛ ولما كان الأمر كله عشوائيا فقد أصيب وقتل من البيض أيضا أعداد غير قليلة.
ولا يختلف الإرهاب الأبيض عن بقية أنواع وألوان الإرهاب الأخرى اللهم إلا في استناده إلى ظاهرة وأيديولوجية "القومية البيضاء" التي تستند إلى شعور بالحصار من قبل قوميات ذات ألوان أخرى تنافس البيض في العمل، وتفرض عليهم ثقافات مختلفة.
ومن حيث الجوهر، فإن هذه النوعية من الإرهاب تعتمد على بث الفزع والرعب في المجتمعات والدول التي تعيش فيها أغلبية من أصحاب البشرة البيضاء.
هنا لا يكون الإرهابي نتاجا لغياب الديمقراطية؛ فهذه الديمقراطية ذاتها هي التي أتت إلى البيت الأبيض الأمريكي من لديه اعتقاد بأن الملونين في بلاده غزاة ومدمنون، ويسعى إلى أن يقيم بينهم وبقية الناس في الجنوب حائطا كبيرا يمتد إلى ألف ميل، وسواء كان الإرهابي في "إل باسو" أو في "دايتون" أو في أي مكان آخر من الولايات المتحدة المترامية الأطراف؛ فإنه لا يعاني من الفاقة أو الفقر، ولا من إساءة معاملة السلطات العامة، فمهمته هي الإرهاب والضغط على مجتمعه لكي يضع نفسه ومن يشاركونه اللون في مكانة متميزة عنصريا في العمل والثروة والسلطة السياسية.
فيلسوف التاريخ "يوفال هاريري" في كتابه "٢١ سؤلا للقرن ٢١" يفرد فصلا خاصا عن الإرهاب ويقيمه من زاوية القيمة العسكرية للعمل الإرهابي من أجل تحقيق أهداف سياسية، وفي الإجمالي فإن هذه القيمة محدودة للغاية مقارنة بالحروب التقليدية وحروب العصابات التي جرت في مراحل التحرر الوطني والثورات في دول العالم المختلفة، العائد من الإرهاب ليس في مقدار الضرر البشري والمادي الذي يوقعه بمن يضعهم في خصومة وعداء معه، وإنما في قدرته على التحكم في العقول بحيث تضع المليارات من البشر في حالة مستمرة من الهلع الذي يقيد حركتهم، وكثيرا ما يدفعهم إلى اختيارات سياسية في الانتخابات لم تكن لتختارها في ظروفها العادية، ففي الحقيقة، والكلام للمؤلف، فإنه منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١ قتل الإرهابيون ٥٠ في المتوسط في الاتحاد الأوروبي، و١٠ في الولايات المتحدة، و٧ في الصين، و٢٥ ألفا في بقية العالم معظمهم في باكستان وأفغانستان والعراق وسوريا ونيجيريا، وفي المقابل فإن المتوسط السنوي لقتلى حوادث السيارات كان ٨٠ ألفا في الاتحاد الأوروبي و٤٠ ألفا في الولايات المتحدة و٢٧٠ ألفا في الصين، ومليونا وربع في بقية العالم. وبالمقارنة مع ضحايا مرض السكري فإنه في هذا المرض بلغوا 3 ملايين ونصف، ومن تلوث الهواء توفي ٧ ملايين في العالم.
ومع ذلك فإن العالم يخاف الإرهاب أبيض أو غير أبيض أكثر من حوادث السيارات أو السكري أو تلوث الهواء لأن الخوف هو مقصد الإرهابيين الأساسي وعندما يقوم "الإرهابي الأبيض" بالتركيز على المباني الفيدرالية كما حدث في "أوكلاهوما" أو مراكز التسوق المزدحمة كما حدث في "إل باسو" أو في الميادين العامة التي يلتقي فيها الشباب ليلة السبت من كل أسبوع فإن نتائج الخوف الاقتصادية والاجتماعية تصبح حقيقة واقعية حتى ولو لم تتناسب مع حجم الخسارة، الطريقة الوحيدة لمقاومة الخوف هو استمرار الحياة والعمل والإنتاج في الوقت الذي تتم فيه تصفية الإرهابيين، وتنقية العقول من مفاسدهم الفكرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة