"تستور".. قصة مدينة تونسية عريقة
تستور الفريدة، مدينة المورسكيين المطرودين من الأندلس، والذين حلّوا بالربوة المطلة على وادي مجردة، شريان الحياة في تونس.
جاؤوا من "قشتالة"، و"أرقون"، و"قاتالونيا"، المدن الأندلسية الشهيرة من بلاد إيبار المسيحية واتخذوا مقامهم على أطلال "تيكيلا" القديمة، (تيكيلا أو العشب الأخضر أو تستور)، القرية التي أسسها اللوبيون وعرفت أوج ازدهارها زمن الفينيقيين.
كانت تستور محطة حيوية على طريق "قرطاج- تبسة"، ثم صارت رومانية إثر هزيمة القائد البربري يوغرطة في القرن 2 ق. م، فبيزنطية هدمَها الوندال "الهراطقة"، ويغلب الأثر الغرناظي على معمار تستور كما في شبه الجزيرة الإيبيرية، إذ الهندسة المعمارية وظيفية وذات أشكال صارمة كما هي حال الجامع الكبير الذى بناه محمد تغرينو سنة 1630 للميلاد، وتعلو صومعته ساعة نجمة سداسية تتردد أيضا داخله، في علامة تسامح وتواصل للانتماء بين المؤمنين من مسلمين ومسيحيين ويهود بالمدينة.
وقد بنى المهاجر الأندلسي الجامع من الحجر الجيري والآجر المطهي والتيجان معادة الاستعمال، وزينه بتلبيس من الزليج والجص الذي أرسل إليه من غرناطة للغرض وبالقرميد، ويزدان الجامع الكبير بـ 68 عمودا بتيجانها، وهي أعمدة وتيجان رومانية، معها 7 أعمدة حسينية (تعود إلى عهد الدولة الحسينية)، وصومعة الجامع فريدة هي الأخرى، فشكلها مخروط ومبنية فوق قاعدة مربعة مثلما هي حال الكنائس الغرناطية، وتحمل الأعمدة المتوزعة داخل الجامع الكبير بتستور تيجانا يهودية.
ويقع جامع تستور الكبير وسْط المدينة العتيقة، عند ملتقى محاورها الرئيسية، ويجمع في فرادة متميزة التقاليد المحلية الأفريقية والتقنيات الزخرفية والهندسية المغربية-الأندلسية، في طابع بناء بسيط خلاب.
تتوسط صومعة جامع تستور الكبير ساعة عجيبة، فأرقام الساعة وعقاربها عكس ماهو مألوف في الساعات، وسرّ دوران عقارب الساعة من اليمين إلى اليسار وفق الروايات الشعبية التستورية يعود إلى كون الأندلسيين كلما أجادوا عملاً عمدوا إلى تشويه جزء منه، خوفاً من العين الحاسدة، وقد عادت ساعة الصومعة إلى العمل سنة 2016 عقب قرون ثلاثة من الصمت، بعد ترميمها وإصلاحها.
وتزدهر الحياة الاجتماعية في تفاصيل مدينة تستور العريقة خلال شهر الصيام، فيجتمع أهالي المدينة بساحتها الكبرى يتذاكرون تاريخ أجدادهم المجيد، وأصولهم الضاربة في العراقة، فقد جلب جدودهم المورسكيون فنون الزراعة الأندلسية وتقنيات الري إلى حوض وادي مجردة، وغرسوا الزيتون والرمان والقوارص والنارنج كما هي عادة المدن الأندلسية، وجعلوا النارنجة تتوسط صحن البيت وتكون رمزا لتواصل الحضارة الأندلسية على الأرض التونسية.
نقوش زخارف قصري الحمراء والعريف بغرناطة تتجدد بتستور على الجدران والبلور والخزف وفي كل مكان، لم يبق مما رسم على الجدر منها إلا قليل، يرعاه التستوريون ويحفظونه، وكما حلّ المورستيون بتستور حاملين إرث غرناطة المعماري، جاؤوا محمّلين بثقافة قروية وغذائية متميزة، تركوا منها إلى اليوم أطباقا شهية منها البناضج (عجين السميد المحشو باللحم المفروم)، والكيسالس (أكلة تشبه البيتزا الإيطالية)، وهما أكلتان تتقن إعدادهما نساء تستور وتحضران في المناسبات، وكذلك تتقن التستوريات صناعة العجائن يدويا في البيت، كالكسكسي والحلالم والمحمصة والنواصر.
تجفيف قشور الرمان كاملا أو فقط قشوره عادة غرناطة، واسمها الأوروبي "قرينادة" أي الرمانة، الثمرة التي تمثل شعار المدينة الأندلسية الشهيرة عبر التاريخ، والتي تحتل مكانة أولى في بيوت وحياة التستوريين.
أجبان تستور هي أيضا الألذّ والأشهر في تونس، الجبن الممزوج بالإكليل أوالحبق أوالفلفل الأسود أوالكمون أوالبندق أوالجوز وغيرها من الفواكه الجافة لا يغيب عن مائدة في المدينة كما في البلاد خصوصا في رمضان.
ويبقى المألوف، موسيقى تستور العلامة، وموسيقى الأندلس الحزينة المعبأة حنينا ووجدانا، أشهر ما يتردد في أرجاء المدينة بل وتونس كلها، ويرسم ملامح الهوية الأندلسية الممتازة لتستور.
التستوريون حرفيون مشهورون، ذوو صنعة راقية في اختصاصات صناعة اللباس التقليدي من "قشبية" (لباس صوفي رجالي تقليدي) وجبّة (لباس تقليدي رجالي تونسي يصنع من الحرير ويطرز بخيوط الحرير والمعادن) متنوعة فاخرة، وفي ساحة مدينة تستور تجتمع نهايات الأحياء الثلاثة الكبرى، وبدايات حكايات أهلها.
الرحيبة، وتغرين، والحارة، أحياء كبرى كان يجتمع أهلها في الساحة الوسطى، ساحة مصارعة الثيران التي كانت تشهد سهرات الأغاني العاطفية التي يعزف الشباب فيها على القيثار وتنشد الفتيات كلمات الحب والغزل، حتى قرن بعد حلول المورستيين بتونس.
aXA6IDE4LjIyNC41Mi4xMDgg جزيرة ام اند امز