لا توجد لدينا قنوات متخصصة في الاقتصاد أو حتى فترات إخبارية اقتصادية
لأول مرة في التاريخ تقريباً يتساوى سعر قطعة واحدة من رغيف الخبز مع رقم يعادل قيمة العملة التي يتم تداولها، حدث هذا في السودان! وأتعجب لأن الحقائق أثبتت أن هذا البلد يعتبر سلّة غذاء العالم العربي، أي أنه يمكن أن يكون السودان سبباً في اكتفاء ذاتي لدولنا العربية قاطبة في كل ما يتعلق بغذائهم! (يقول أحدهم متهكماً: راتبك الشهري كم رغيفة)
على الرغم من أن كل المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية دون استثناء تحظى بخبرات أبناء السودان، وتوظفها لتعزيز حضورها وتحقيق أهدافها.. للأسف الشديد وسائل الإعلام السودانية غارقة في وحل التطبيل والتسطيح، ومناقشة ما لا يفيد المواطن أو السياسة الخارجية للبلاد
وصل سعر رغيف الخبز إلى جنيه كامل بحجة أن جوال الدقيق بوزن 50 كليو جراماً وصل إلى 470 جنيهاً سودانيا في السوق السوداء، و450 جنيهاً في المنافذ الرسمية، بدلاً من 176 جنيهاً، بسبب أن ميزانية 2018 تسببت في زيادة ثمن المحروقات وتكاليف الإنتاج بشكل عام..
وهذه الزيادة ليست الأولى ولا الثانية ولا الثالثة التي يرتفع فيها سعر هذه المادة الغذائية الأساسية حيث تأثرت بارتفاع سعر العملة المحلية أمام الدولار، وكانت النتيجة أن اتبعت منافذ بيع الخبز أساليب ملتوية وغير مشروعة لمواجهة تلك الزيادات، منها تقليل حجم ووزن القطعة الواحدة ليتناسب مع قيمة الزيادة التي كان يتعرض لها الدقيق، وأيضاً عمدوا إلى إضافة مادة برومات البوتاسيوم المعروفة التي ثبت علمياً أنها مادة سامة ومسرطنة، غير آبهين بآثارها الخطيرة لمجرد الحصول على زيادة شكلية في حجم الخبز؛ بهدف تفادي تقليل الكمية المستخدمة للتمكن من تغطية أعباء النفقات والتكاليف على الرغم من خطورة تلك المادة، وتحذير جهات رقابية عدة من آثارها، فضلاً عن عدم مشروعيتها القانونية، ومع كل ذلك لم يمتنع الخبّازون عن استخدامها، والأغرب أن مادة خطيرة كهذه كيف يُسمح لها بالوصول إلى المخابز ولو بشكل غير رسمي لتصل إلى كل بيت تقريباً تحت سمع وبصر الجهات الرقابية التي يُفترض بها أن تحارب ذلك .
تحمّل السودانيون هذا الأمر طوال السنوات الماضية، وحاولوا التكيّف مع موجات الغلاء المتتالية، إلا أنهم ما عادوا يقدرون على الاحتمال، فعاد كثير منهم إلى العادات الغذائية التي توارثوها.. فبدلاً من شراء الخبز في شكله النهائي، عادوا إلى صناعة وتناول (الكِسرة) وهي مادة تُصنع من الذرة الرفيعة أيضاً لتخرج في شكل رقيق يشبه (الرقاق) في مصر و(المرقوق أو القرصان) المجفف المشهور في دول الخليج، وطبقة من طبقات عيش التنور السوري المعروف بكبر حجمه وقلة كثافته.
كما عادوا أيضاً إلى تكثيف تناول العصيدة و(القُرّاصة) بضم القاف وتشديد الراء، وكلها مواد شبه أساسية ولكنها لا تؤكل منفردة، وتحتاج إلى كميات من اللحوم والبهارات حتى تكتمل مكونات الوجبة، كما أن إنتاجها يتطلب كميات كبيرة من الغاز المنزلي أو حتى الحطب الذي عاد الناس لتكثيف استخدامه في المنازل أيضاً في العاصمة الخرطوم، فضلاً عن الولايات والأرياف لتفادي تكاليف استخدام الغاز، إلا أنهم لن يتمكنوا حتى من الاستفادة من تلك الطرق البدائية حيث كانت الخطة تعتمد على شراء الدقيق بسعر الجملة.. ولكن يا حسرة ..
تفهم السودانيون كل أشكال الزيادات التي طرأت على مختلف احتياجاتهم الأساسية رغما عنهم، و استجابة لوعود ساقتها الحكومة بتخفيض أسعار السلع الأساسية ودعم بعضها، ثم أخذ التفهم شكلاً من أشكال اليأس من جدية الحكومة في تنفيذ وعودها، وهذا ما يفسّر تحركات الاحتجاج بشكل دوري في الأعوام الثلاثة الأخيرة، والتي للأسف الشديد تسفر في كل مرة عن عدد من الضحايا من الشباب وجملة من المعتقلين، ولعل الجميع يتذكر احتجاجات 2013 الشهيرة التي كان سببها رفع الدعم عن الوقود والخبز.
وربما كان أكبر وعد ساقته الحكومة منذ تم الإعلان قبل عام على الأقل عن مفاوضات رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية أن أحوال البلاد ستتبدّل بعد رفع تلك العقوبات.. و المفترض أن هذا صحيح نظرياً، لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، ما الذي قدمته الجهات المعنية بمتابعة ملف رفع العقوبات؟ وأين هي الاستثمارات التي وعدت بها؟ لا شيء مما وعدوا به تحقق.. لماذا؟ لأن الحكومة لم تعمل على تعزيز ثقة المستثمر فيها، كيف لها أن تعزز تلك الثقة المنعدمة أصلاً؟ الإجابة يفترض بها أن تكون معروفة لدى المعنيين.. أولا بأن تدرك الحكومة أن مسألة القبول برفع العقوبات الاقتصادية فقط كان خطأ فادحاً، فما الفائدة من رفع تلك العقوبات مع الإبقاء على اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب؟ الأمر أشبه برفع لافتة على مطعم يقدم وجبات شهية مضمونة وعالية الجودة مكتوباً عليها مطعم يقدم لحوم الكلاب أو التماسيح والصراصير.!!
كان يُفترض أن تسعى الحكومة في ملف رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب أولاً، وأن تسعى بالتوازي مع تلك التحركات إلى اعتماد وتبني خطط اقتصادية طموحة ولو على الورق، ثم يتم العمل على تسويقها بشكل مكثّف عبر مختلف المسارات الإعلامية و الدبلوماسية والسياسية (داخلياً وخارجياً)، لكن الواقع المر يثبت أننا لم نسمع عن برنامج عمل لوزير الاستثمار السوداني، لم نشاهد مؤتمرات اقتصادية ولو سنوية تعرض إمكانات السودان وثرواته الطبيعية، وتطرح الفرص الاستثمارية المتوقعة.. وحتى لو أقيمت تلك المؤتمرات كيف سيعرف العالم عنها؟ أين هي الأذرع الإعلامية و القنوات الإخبارية السودانية التي ستتكفل بالعمل على الشق الإعلامي من عملية التسويق والترويج لتلك الخطط، ومناقشتها وتصويبها واستقصاء رأي المستثمر في المشرق والمغرب لمعرفة مخاوفه و تطلعاته؟، لا شيء من ذلك للأسف الشديد، حتى إن وسائل الإعلام المملوكة للدول الشقيقة كانت لتتفاعل مع أي نية لتنفيذ أي من تلك الخطط المنشودة من باب الواجب المهني وحق الجيرة والقربى، للأسف لا أمل من الإعلام السوداني لا في تلبية تطلعات المواطن ولا السائح ولا المستثمر، على الرغم من أن كل المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية دون استثناء تحظى بخبرات أبناء السودان، وتوظفها لتعزيز حضورها وتحقيق أهدافها.
للأسف الشديد وسائل الإعلام السودانية غارقة في وحل التطبيل والتسطيح ومناقشة ما لا يفيد المواطن أو السياسة الخارجية للبلاد.
لا توجد لدينا قنوات متخصصة في الاقتصاد، أو حتى فترات إخبارية اقتصادية ضمن قنوات إخبارية، هل تعرفون أن التلفزيون السوداني تم إنشاؤه بعد أقل من عامين فقط على إنشاء التلفزيون المصري في العام 1960؟، أي أن لدى السودان من الخبرات والكوادر ما يمكنها أن تشرف على أفضل المنظومات الإعلامية بحكم الخبرة الطويلة وقد كان لكثير من الأسماء السودانية شرف إدارة مؤسسات إعلامية حكومية لدول شقيقة.
للأسف الشديد الإعلام السوداني منشغل بالخلافات السياسية الحزبية الضيّقة التي تسببت في التأسيس لصورة نمطية سلبية لدى جميع من يتابعنا من الأشقاء.. ( أما الغرب فلا يتابع أي شيء عن السودان لأنه لا توجد وسائل إعلامية تتحدث إليهم بلسانهم).
أعود لمشكلة الاقتصاد السوداني، وللأسف الشديد فإن أقصى ما تمكن المعنيون من تنفيذه هو مراكمة ديون السودان الخارجية عاماً بعد عام بسبب اللجوء إلى الحلول المسكّنة، وأسرعها الاقتراض والإعانات المالية التي وللأسف الشديد غالباً ما تكون أوجه صرفها محددة مسبقاً لتوفير سلع معينة لمدة محددة.
وتساؤل المواطنين السوداني اليوم.. ألا توجد طريقة أخرى لمواجهة آثار تعويم العملة وتغطية عجز الميزانية سوى اقتطاع 100% من قيمة خبزهم؟ والله حرام عليكم.. وإنكم لمسؤولون أمام الله..
بدلاً من المخاطرة بأقوات الناس في الداخل والمخاطرة بعلاقات السودان رسمياً وشعبياً باتخاذ مواقف متشنّجة مع الدول الشقيقة، كان الأولى أن يجلس الجميع ليبحثوا إمكانية إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والسياسية مع الأشقاء والأقربين، ولا شنو؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة