إن منطق الإهانة هو أكثر من السيف والموت في الأذى, وهذا ما مارسته تلك الشريحة من الجماهير مع اللاعب "شيكابالا" تماما.
لست كرويا مهووسا بفريق محلي أو حتى فريق عالمي، الكرة بالنسبة لي تسلية لا يتجاوز مدى تأثيرها ساعة ونصف، وهي مدة الشوطين للمباراة. لدي انحياز طفولي بريء لفريق "الإسماعيلي"، حيث نشأت وكبرت في تلك المدينة النائمة على قناة السويس، مدينة البطولة والبسالة والجمال.
بخلاف ذلك أتابع بين الحين والآخر ما يدور على البساط الأخضر تارة للفريق الذي يلعب فيه "محمد صلاح"، تيمنا وحبا لهذا الشاب المصري الخلوق، وتارة أخرى أسير مع الموجة العامة لمتابعة مباراة بين الأهلي والزمالك كتلك التي دفعتني للكتابة عن كرة القدم وأنا الذي لم يكتب كلمة عنها يوما من الأيام.
في مساء الجمعة الماضي تابعت كما تابع الجميع المباراة الختامية لبطولة دوري أبطال أفريقيا، والتي انتهت بفوز النادي الأهلي على الزمالك، والتي لم تكن أبدا مباراة ممتعة على الإطلاق، سادها الملل وبعض الترقب وإهدار الفرص، وكان الحضور الذي شاهد المباراة أكثر حماسا وانفعالا من اللاعبين أنفسهم.
ليس هذا هو القصد والغاية من وراء كتابتي وإنما ما حدث بعد المباراة هو الذي دفعني للكتابة، ليقيني بأن قياس درجات الوعي والتحضر يكون في تلك اللحظات، لحظات الحراك الجمعي، حين يقود العقل الجمعي للمجتمع، يمكن هنا رصد بعض الظواهر التي نقيس عبرها المستوى الذي وصلنا إليه، أخلاقيا، ثقافيا، وحتى في مستوى درجات الوعي الإنساني.
رأيت كما رأى الكثيرون فيديو لمشهد احتفالي لشريحة من مشجعي النادي الأهلي وهم يرفعون "كلبا أسود يرتدي فانلة شيكابالا" لاعب نادي الزمالك الذي أحرز هدف التعادل لفريقه في تلك المباراة، والتي حسبما عرفت هناك تجاذبات بينه وبين جمهور النادي الأهلي.
هنا كان علي أن أقف للحظة لتثبيت اللقطة لذلك الكلب الأسود وهو مرفوع على الأعناق، ومن خلفه هتافات سباب لشيكابالا وعائلته الكريمة. على الفور وعلى حسابي في تويتر أعلنت تضامني مع شيكابالا، بل قدمت له اعتذارا باسم الإنسانية.
كان علي ألا أترك تلك الظاهرة تؤخذ في إطار الظواهر العابرة، وأنها عادية ولا تشكل تهديدا للأخلاق ولا لأي شيء. وهي عكس ذلك تماما فهي طفح حقيقي لتدني أخلاقي مجتمعي لا يجب السكوت عنه، وأنها قد تكون رأس جبل الجليد الذي ظهر وأن ما خفي هو الأكثر رعبا وخوفا.
هنا كان علي أن أعود إلى تعريف الأخلاق في المعنى الذي أفضله بأنها "منظومة قيم يعتبرها الناس بشكل عام جالبة للخير وطاردةً للشر وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره".
وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني، كما تعتبر مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.
وهي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته. فأعمال القلوب تختص بعمل القلب، بينما الخُلُق يكون قلبياً ويكون ظاهرا أيضا.
والأخلاق هي دراسة، حيث يقيم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات ومبادئ يمشي عليها وأيضا واجبات تتم بداخلها أعماله أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة.
من هنا لا يمكن اعتبار ذلك التصرف تصرفا عاديا عابرا، طارئا، تحركه الصدفة والانفعال إنما هو طفح كاشف لما انضوى عليه اليقين والمعتقد وتحول إلى سلوك مرئي ومؤذ في آن واحد.
أكثر ما ينتج عنه هو ما يمكن أن نسميه ثقافة الإهانة التي تحدث عنها المفكر المغربي الراحل، المهدي المنجرة، حين كان يتحدث عن طريقة الازدراء والتعالي التي تعامل بها العالم الأول في أمريكا وأوروبا مع العالم الثالث الذي هو نحن هنا في الشرق الأوسط.
إن منطق الإهانة هو أكثر من السيف والموت في الأذى، وهذا ما مارسته تلك الشريحة من الجماهير مع "اللاعب" شيكابالا تماما، هي ممارسة من يتوهمون أنهم العالم الأول مع العالم الأقل والأدنى، كما كان يطلق علينا أحيانا "الشرق الأدنى وليس الأوسط".
في تلك اللحظة تعود كرة القدم إلى سيرتها الأولى باعتبارها كما يقول تاريخها "ثقافة الركل والتشفي حيث كانت تحدث بعد كل معركة حربية فيقوم الفريق المنتصر بركل الرؤوس بعد تقطيعها". وذلك كان يحدث في الفترة ما بين 255 قبل الميلاد إلى 220. تلك إذا حقيقة اختراعها حتى قبل أن يطورها "تشارلز جوديير"1863 حتى وصل إلى تأسيس الدوري الإنجليزي عام 1888.
من الغريب فعلا أن فيها شيئا من ثقافة الركل اللفظي أكثر من ثقافة الركل الكروي، وبنظرة أخلاقية لكرة القدم سنجد أنها كانت السيف الذي قسم المجتمعات إلى فريقين "الفريق المع، والفريق الضد".
كل فريق لا يتردد لحظة في ركل جماجم الفريق الآخر بعد كل انتصار، في أشكال كثيرة، جماجم الكرامة، جماجم السمعة والمروءة، ليصيب الآخرين بطلقات الأذى والإهانة.
لم يكن النادي الأهلي ولا نادي الزمالك مجرد ناديين رياضيين فقط، وإنما يمثلان مرحلة من التاريخ الحديث، سياسيا، وثقافيا، واجتماعيا.
فالنادي الأهلي الذي تأسس في أبريل 1907 على يد رجالات الثقافة والسياسة في مصر أمثال طلعت حرب ومصطفى كامل وغيرهما، ليكون تجمعا اجتماعا ثقافيا لبناء الوعي والوجدان قبل أن يكون ناديا لكرة القدم وفقط، لا يمكن اعتبار أن الخلفية التاريخية طارئة وغير مهمة، وإنما تحتاج إلى عقلاء يعيدون الأمر إلى أصله الضائع .
كذلك نادي الزمالك الذي كان انعكاسا لحراك أمة كاملة منذ تأسيسه عام 1911 باسم نادي الزمالك ثم تغير اسمه إلى النادي المختلط 1913 ثم حمل اسم "نادي فاروق" نسبة إلى "الملك فاروق" ملك مصر والسودان آخر ملوك العهد الملكي في مصر، وبعد ذلك عاد النادي إلى اسمه بعد ثورة 23 يوليو 1852 وهو نادي الزملك .
بقليل من التدقيق يمكن اعتبار نادي الزمالك والنادي الأهلي تاريخا ليس لمصر فقط وإنما لأمة كاملة، عبره تقرأ تغير الأنظمة وتغير الشعوب، تقرأ عبره تطور الوعي وانحداره، هما ليسا ناديين رياضيين وفقط، وإنما هما مرآة تعكس ما وصلنا إليه في مجتمعاتنا وفي سلوكنا وفي يقيننا وعقيدتنا.
أطالب القائمين على أمر الناديين بل على أمر الرياضة في مصر أن يتبنوا مشروعا أخلاقيا ثقافيا توعويا إرشاديا لجماهير ومشجعي الناديين عنوانه "الاحترام، والرقي، وتجنب الإهانة"، ووضع الرياضة في خانة الرياضة، تنتهي بانتهاء المباراة .
أدعو أن يتشارك لاعبو الناديين في حملات لتوجيه رسائل للجماهير عنوانها نحن أصدقاء كلاعبين، فلماذا لا تكونون أنتم أصدقاء كجماهير.
الوعي لا يتجزأ والأخلاق تبقى هي الحكم الأهم على أي أمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة