الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا.. من يتحمل فاتورة الحرب؟
رغم آفاق النمو القوية للاقتصاد الأوكراني، بفضل تنوع الدخل بصدارة الزراعة، إلا أن التوترات الدائمة مع جارتها روسيا، تكبح جماح النهوض.
واليوم، تعيش أوكرانيا أحد أصعب تحدياتها على الإطلاق، بفعل مخاوف من حرب مع جارتها الشرقية روسيا، صاحبة أحد أقوى الاقتصادات والجيوش حول العالم.
الاقتصاد الأوكراني.. أرقام صاعدة
وفقا لتقدير سريع لـ"FocusEconomics" صدر الشهر الماضي، تسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا، إلى أعلى مستوى له في 10 سنوات في الربع الرابع من العام الماضي، على الرغم من الوضع المتوتر على الحدود الأوكرانية.
على الرغم من أن تفاصيل النمو النهائية لا تزال معلقة، فإن البيانات المتاحة تشير إلى إنفاق استهلاكي قوي وأداء قوي في قطاع الزراعة.
في غضون ذلك، اقترحت المفوضية الأوروبية برنامجًا طارئًا بقيمة 1.2 مليار يورو لدعم الاقتصاد الأوكراني وسط بانوراما جيوسياسية متوترة.
ومؤخرا، حشدت روسيا حوالي 25000 جندي إضافي على حدود أوكرانيا؛ ونتيجة لذلك، عززت الولايات المتحدة وجودها في المنطقة واستمر حلفاء الناتو في تزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية.
وفي محاولة لتخفيف التوترات، عرضت تركيا التوسط في جولة ثانية من محادثات السلام، لكن من غير المرجح أن يتلاشى التهديد بالتصعيد في أي وقت قريب، مما يضر بمناخ الأعمال في البلاد.
تعاف مهدد
من المتوقع أن يكتسب النمو الاقتصادي قوة في عام 2022، بعد انتعاش العام الماضي، شريطة عدم وقوع حرب في البلاد، لأنه ستنسف أية توقعات إيجابية للبلد الزراعي الكبير.
لذا، فإن التوترات المتصاعدة مع روسيا المجاورة والتهديد الذي يلوح في الأفق بنشوب صراع عسكري، يشكلان مخاطر جسيمة على التوقعات.
يتوقع أعضاء لجنة FocusEconomics أن يتوسع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 3.5% في عام 2022 شريطة عدم تصاعد المخاوف، وهو ما يمثل انخفاضًا بمقدار 0.2 نقطة مئوية عن توقعات الشهر الماضي.
أرقام رئيسة في حرب أوكرانيا
ويبلغ عدد سكان أوكرانيا بحلول نهاية عام 2020، نحو 41.9 مليون نسمة، بينما يبلغ متوسط نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي، نحو 3678 دولارا أمريكيا، إذ يبلغ متوسط الناتج المحلي 154 مليار دولار.
وتبلغ نسبة البطالة في أوكرانيا نحو 8%، بينما يشكل إجمالي الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي 50.3%، فيما يبلغ متوسط صادراتها السنوية قرابة 61 مليار دولار أمريكي.
ويلعب القطاع الزراعي دورًا رئيسيًا في الاقتصاد الأوكراني. ففي عام 2020، ساهمت بـ 9.3% من الناتج المحلي الإجمالي ووظفت 14% من السكان العاملين (البنك الدولي).
المحاصيل الرئيسية هي الحبوب والسكر واللحوم والحليب؛ فيما أوكرانيا هي خامس أكبر مصدر للحبوب في العالم، خامس أكبر مصدّ للقمح بالتحديد حوال العالم.
الأزمة الاقتصادية المقبلة
ظاهرياً، يبدو أن عدداً من الروس يدعم موقف الكرملين الحربي تجاه الغرب، و في مقابلة مع لافروف، طرحت مارغريتا سيمونيان، رئيسة شبكة "آر تي" الروسية الإخبارية، السؤال الذي كان متابعوها على وسائل التواصل الاجتماعي يسألونه: "متى سنوجه ضربة إلى واشنطن؟" على الرغم من أن آراء سيمونيان المشجعة والمؤيدة للحرب قد أسهمت بشكل كبير في إثارة مثل تلك الأسئلة.
و يبدو أن موقف الكرملين الأساسي بشأن الدفاع عن نفسه من التعدي الغربي يجد الدعم في كثير من الأحيان.
وكما علق أحد المشاركين في إحدى المجموعات التشاورية النموذجية على استطلاع رأي حديث، "ستضطر روسيا إلى الرد.. نحن محاصرون من جميع الجهات. إنهم يلسعوننا. ماذا يفترض بنا أن نفعل؟ هل نستسلم؟".
ولكن خلافاً للأزمة الحالية في أوكرانيا، لم يتضمن ضم شبه جزيرة القرم مواجهة بين قوتين مدججتين بالسلاح، في الواقع، استعاد بوتين شبه الجزيرة، كما فعلت كاترين العظمى عام 1783، من دون إطلاق رصاصة واحدة.
على النقيض من ذلك، يبدو من شبه المؤكد الآن أن أي حملة لإعادة تأكيد القوة الروسية في أوكرانيا ستكون عنيفة وطويلة الأمد. وفي ما يتعلق بالتحديد بقضية الحرب الفعلية، يبدو أن عدداً كبيراً من الروس يشعر بقلق شديد.
في نهاية المطاف، أدت الحرب والمأزق في شرق أوكرانيا بعد حملة القرم في عام 2014 إلى مقتل آلاف الأشخاص، من بينهم عدد غير مؤكد من القوات الروسية والمقاتلين المتطوعين. وبمرور الوقت، نتج من ذلك مفهوم سائد في روسيا بأن شن هجوم في أوكرانيا لن ينجح كما حدث في شبه جزيرة القرم.
وفي ذلك الإطار، يدرك الروس أنها ستكون حرباً فعلية تخلف وراءها ضحايا. وفي مواجهة صراع مماثل، هم يُبدون تردداً أكبر بكثير.
وفي أبريل/ نيسان 2021، أثناء الحشد الأولي للقوات الروسية على الحدود مع شرق أوكرانيا، انقسم الرأي العام في شأن العمل العسكري الروسي بشكل متساو، إذ قال 43 في المئة من المشاركين في الاستطلاع إن على روسيا التدخل، مقابل نسبة مماثلة رأت وجوب الإحجام عنه التدخل.
التشاؤم الروسي في شأن الاقتصاد
وبطريقة موازية، تبدو مخاوف روسيا في شأن الحرب أكثر وضوحاً في استطلاعات الرأي الأخرى التي أجراها مركز "ليفادا"، وهو عبارة عن منظمة مستقلة تجري الاستطلاعات ومقرها موسكو. في بحث قائم على مجموعات تشاورية نموذجية في ديسمبر / كانون الأول 2021، وجد المركز أن بعض الروس عبروا عن أنهم متعبين من كونهم في حالة مواجهة مستمرة مع الغرب وأوكرانيا.
وكان الموقف المهيمن بين المشاركين، "إنه أمر مخيف، ومزعج، ولا أريد التورط فيه"، في الواقع، وراء هذا القلق العميق، يكمن الشعور السائد بين عدد من الروس بأن روسيا قد تواجه قريباً تكاليف اقتصادية واسعة النطاق من الصراع مع الغرب. وفي استطلاع منفصل في شهر ديسمبر، وجد مركز "ليفادا" أن النسبة المئوية للسكان الذين شعروا أنه من الممكن حدوث "أزمة اقتصادية" في روسيا في العام المقبل، قد زادت بشكل ملحوظ مقارنة مع العام السابق، إذ ارتفعت من أقل من 50 في المئة إلى حوالى 64 في المئة.
وفي ذلك السياق، يبدو أن التشاؤم الاقتصادي المتزايد يرتبط عن كثب بافتراضات حول حرب محتملة.
والجدير بالذكر أن نسبة الروس الذين توقعوا حدوث "نزاع مسلح مع دولة مجاورة" في العام المقبل زادت بمقدار مماثل في استطلاع ديسمبر الماضي، أي بنسبة 14 في المئة، مرتفعة من أقل من ربع السكان قبل عام إلى أكثر من الثلث.
والأهم من ذلك، بالنظر إلى الوضع الحالي في أوكرانيا، زاد عدد الذين توقعوا حرباً مع الولايات المتحدة أو الناتو في العام المقبل بمقدار الضعف تقريباً، من 14 في المئة إلى 25 في المئة من السكان.
في الوقت نفسه، يبدو أن هناك مخاوف متزايدة في شأن احتمالات نشوب "حرب عالمية" أوسع.
وفي استطلاع آخر أجراه مركز "ليفادا" أخيراً حول مخاوف الروس الأكثر شيوعاً، احتل الخوف من حرب عالمية جديدة المرتبة الثانية، فيما جاء في المرتبة الأولى خوف الناس من إصابة أحبائهم أو أطفالهم بالمرض.
وبحسب الاستطلاع، أشارت غالبية واضحة من الروس، 56 في المئة، إلى أنها تخشى اندلاع حرب عالمية جديدة، بينما أعرب 14 في المئة عن قلقهم إلى حد ما حيال ذلك. (وأتت في المرتبة الثالثة "إساءة استخدام السلطة من قبل السلطات"، إذ أشار 53 في المئة من الروس إلى أنهم يخشون ذلك كثيراً، بينما أشار 18 في المئة إلى أنهم يخافون من وقوع ذلك على الأقل في بعض الأحيان).
وحتى في غياب حرب فعلية، فإن توقعات الناتج المحلي الإجمالي والتضخم في روسيا لعام 2022 قاتمة، ففي الأسابيع الأخيرة، أدت المواجهة مع الغرب إلى إضعاف الروبل، الذي ظل مستقراً نسبياً في عام 2021، وألحقت أضراراً بأسواق الأسهم الروسية، ما أثر على الأسواق المالية العالمية. علاوة على ذلك، الأخبار السارة بأن الدخل الحقيقي المتاح في روسيا قد بدأ أخيراً في النمو مرة أخرى بعد سنوات من التراجع، قد خف تأثيرها السار، من منطلق أن هذا الدخل ينمو من نقطة بداية منخفضة وبسبب "الطلب المكبوت" الناجم عن الجائحة. في المقابل، تفاقم شعور المستهلكين التشاؤمي بسبب المخاوف من أن العقوبات الغربية الجديدة قد تترك روسيا من دون عملة قابلة للتداول والتحويل إلى عملة أخرى، أو من دون القدرة على الوصول إلى نظام الدفع الدولي "سويفت" SWIFT.
قصف فورونيج أو الدمار الذاتي
بالنسبة إلى عدد من الروس، يُعد الشاغل الأكبر على الإطلاق في شأن الحرب في أوكرانيا هو طبيعة الصراع.
في الواقع، خاض الاتحاد السوفياتي حروباً بالوكالة مع الولايات المتحدة في كوريا والشرق الأوسط وفيتنام، لكن تلك المناطق كانت بعيدة وفيها سكان ليس لهم صلة تُذكر بروسيا.
خلال تلك الصراعات، كان الروس يميلون إلى دعم الحروب، بيد أن قلة قليلة من غير العسكريين المحترفين عرفت درجة التدخل السوفياتي الحقيقية.
وشكل غزو أفغانستان في عام 1979 استثناءً، إذ قوض الاتحاد السوفياتي إلى حد كبير معنوياً ومالياً، إضافة إلى ذلك، تشاركت أفغانستان الحدود مع الاتحاد السوفياتي، كما هو وضع أوكرانيا مع الاتحاد الروسي اليوم، لذا لم يكن من الممكن تجاهل الحرب. وخلال الصراع في أفغانستان، جرت التضحية بأعداد كبيرة من الشباب الروسي، وعاشت عائلات متعددة في خوف دائم من احتمال تجنيد أبنائها في الجيش.
وكما كان الحال إبان الحرب في أفغانستان، يشعر أشخاص كثيرون بالقلق من أن الحرب في أوكرانيا ستؤدي على الأرجح إلى سفك الدماء، لذا، هم يخافون على أولادهم. فضلاً عن ذلك، تقع أوكرانيا في الجوار مباشرة.
وعلى الرغم من أن بعض الروس تربطهم علاقات عائلية مع الأوكرانيين، إلا أنهم لا يشاركون وجهة نظر بوتين بأن الأوكرانيين والروس هم أمة واحدة. وفقاً لاستطلاع حديث مشترك أجراه مركز "ليفادا" ومعهد كييف الدولي لعلم الاجتماع، فالرأي الأكثر شيوعاً بين الروس، الذين يمثل أكثر من 51 في المئة من السكان، مفاده أن روسيا وأوكرانيا يجب أن تكونا دولتين مستقلتين، ولكن صديقتين "من دون تأشيرات وحدود جمركية".
وتملك النسبة ذاتها من الأوكرانيين تقريباً، 49 في المئة، الرأيَ نفسه، على النقيض من ذلك، يؤيد 16 في المئة من الروس و6 في المئة من الأوكرانيين لا غير فكرة الدولة الموحدة. والجدير بالذكر أن ثلثي الروس الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، وهم يشكلون الفئة التي ستقاتل على الأغلب في حرب بوتين، يتخذون موقفاً إيجابياً تجاه أوكرانيا وقد يكونون رافضين تماماً للقتال.
بوتين وثمن الحرب
حتى الآن، من غير الواضح ما إذا كانت المواقف العامة ستخلف تأثيراً على تصرفات الكرملين في أوكرانيا.
وفي السنوات الأخيرة، بما في ذلك آخر ستة أشهر من عام 2021، ظلت شعبية بوتين مستقرة إلى حد كبير، على الرغم من أن معدلات تأييد بوتين تحمل معنى ضئيلاً بالمقارنة مع تصنيفات القادة الغربيين، نظراً لعدم وجود أي معارضة فعالة في روسيا، لا يزال بوتين يحظى بدعم أكثر من 60 في المئة من السكان.
ويبدو أنه مقتنع بأن إعادة أوكرانيا إلى دائرة نفوذ روسيا وتحويلها إلى دولة حيادية عازلة، هو هدف في المتناول، وثانياً، قد يسهم التحرك نحو هذا الهدف في الحفاظ على شعبيته وتعزيزها في الداخل.
وقد نجح حتى الآن، إذ أبقى العالم في حالة من التوتر وعدم اليقين من دون تقويض مستويات دعمه وتأييده في الداخل بشكل كبير. وحالياً لا توجد حركة منظمة في روسيا ضد الحرب. لكن هذا قد يتغير بسرعة في حال نشوب صراع عسكري. في الواقع، هناك شيء واحد يبدو واضحاً: الروس غير مستعدين لتحمل ثمن الحرب، لطالما خشي الكرملين احتمال حدوث "ثورة ملونة" داخل روسيا، على افتراض أنها ستأتي من نقاد النظام الليبراليين.
ولكن قد يكون مصدر التهديد الأكبر مواطنون روس عاديون مستاؤون من الوضع الاقتصادي الحالي، بمن فيهم أولئك الذين صوتوا للشيوعيين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2021. إذا اقتنع عدد كاف من الروس بأن الحرب أو احتمالية نشوب حرب يشكلان تهديداً لسبل عيشهم الاقتصادية، فمن الممكن أن يتراجع دعمهم للنظام.
ليس من المؤكد ما إذا كان هذا الواقع سيترك أثراً على تفكير الكرملين أم لا. وفي ذلك السياق، قد يحسب بوتين جيداً أن فوائد إعادة ترجيح كفة القوة الروسية تفوق أي تكاليف سياسية. ولكن إذا فعل ذلك، فلن يكتفي بدفع الأوكرانيين بعيداً من روسيا فحسب، بل قد يدفع الروس أيضاً بعيداً من الكرملين.