"ملكوت الخط العربي".. جماليات الحرف والرسم
19 فنانا يشاركون في معرض "ملكوت الخط العربي المعاصر" المقام بـ"جاليري ورد" بحي دبي للتصميم
بانسيابية تشكيل الحروف، بومضات الفنان العربي المسلم الذي فجّر طاقات الرسم والحرف ازدهى تراث الفن العالمي بإبداعات الخط العربي، تكويناته الفريدة وتشكيلاته اللا نهائية، ينهل من صفاء جمالها وإيقاعها الهندسي المميز كل من يقع نظره عليها، هي التي أَسَرت الشرق والغرب معا لتمسي "ملكوتًا" يدور في فلكه العرب والعثمانيون والفرس وبلاد السند.. هنا في معرض "ملكوت الخط العربي المعاصر" الذي افتتح مؤخرا في "جاليري ورد" بحي دبي للتصميم يجتمع 19 فنانا من مختلف المشارب والتوجهات والأقطار ليسبروا أغوار الحرف العربي بعيدا عن كلاسيكياته المعهودة، مقدمين قراءة معاصرة للحرف العربي كمفردة بصرية مكتنزة بدلالاتها وحاملة للهوية والخصوصية الثقافية.
عبد القادر الريس
يشارك الفنان عبد القادر الريس بلوحتين من مجموعة "السكينة" التي ترتكز على تجسيد حرفي الهاء والواو بأسلوب الحروفية الممتزج بتقنيات التجريد اللوني. فغالبا ما يأخذ الفنان من التجريد اللوني أسلوبا له، ومن ثم تأتي الحروف العربية لتصبغ هذا التجريد بصبغة عربية أصيلة، يرى الفنان أن الحرف العربي بتركيبه الهندسي المميز ونسب رسمه الرائعة مادة بصرية فنية غنية بالمضامين وتؤثر على مفهوم اللوحة حينما تمتزج مع عناصرها الفنية الأخرى.
تمتاز ألوان الريس في أعماله بتماهيها مع بيئة الإمارات، فنجد كثيرا من لوحاته تراوح بين زرقة البحر والسماء وخضرة النخيل وصفرة الصحاري وبنية الجبال والأراضي، لكن في الأعمال المشاركة في "ملكوت" يخرج الفنان عما ألفناه عنه لنجد ألوان الأحمر والفيروزي والكحلي قد شغلت مساحات واسعة من تجريده اللوني، ويعيد الفنان هذا الأمر إلى العامل النفسي الذي يلعب دورا كبيرا في مسألة التجريد اللوني، وقد عمد الفنان إلى تركيب هذه الألوان بطريقة تبعث الحركة والتأمل في العمل للبحث عن مخارج "السكينة" فيها.
مطر بن لاحج
فنان الخيول والخطوط غير المنتهية، مطر بن لاحج، يشارك في المعرض بثلاث منحوتات فراغية اعتمدت على الحرف العربي في تكوينها، وقد اعتاد الفنان على استلهام أفكاره من خياله وعالم اللا واقع لديه مرتكزا على أساليب كسر قواعد الاتزان البصري وإدخال الخطوط والتكوينات غير الاعتيادية في عرض وطرح مشروعاته الفنية، لنجد الدائرة قد شغلت حيزا واضحا في منحوتات الفنان بتشكيلها بطرق مبتكرة اعتمدت في تأويلها الأصلي على سيرورة حركة الكون وشكل الأرض كمركز للحياة.
من هذا المنطلق، اعتمد الفنان على الدائرة في تكويناته الفراغية من خلال تشكيل أحد الأعمال تحت مسمى "وزن"، وفيه يعتمد العمل على خلق نوع من التوازن بين كتل العمل الحديدية الضخمة التي تزن 400 كجم. اعتمد بن لاحج على قواعد فيزيائية لجعل هذا المجسم الضخم خفيف الحركة والوزن بهدف تعامل الجمهور معه ليصبح بهذا تركيب تفاعليا يثير مشاعر الجمهور ويمكن التعامل معه بالتحريك واللمس، وهو ما يخلق حالة حسية مع المتلقي. ويأتي العمل الثاني ضمن المعروضات والملقب بـ"انبعاث اللغة" معتمدا على مبدأ تفكيك وتحليل مسارات الدائرة، ومن خلاله يناقش الفنان فكرة المخاطر المحدقة باللغة العربية ومدى تأثرها بالعولمة، لكن رغم هذا يظل الأمل موجودا في "انبعاث اللغة" بقوة مرة أخرى، وهو ما يبدو جليًّا في ثالث الأعمال التي نقش فيها بن لاحج الحروف العربية على جياد عربية آخذة في الركض والمضي قدما.
وسام شوكت
أربع لوحات مثلت عماد مشاركة الفنان وسام شوكت في معرض "ملكوت"، وتأتي هذه الأعمال لتلخص تجربة الفنان الأخيرة وما وصل له في رحلته مع الخط، حيث شرع شوكت كخطاط كلاسيكي، لينتهي به الأمر إلى تجريب الخط بطريقة تجريدية وخلق مساره الخاص معتدا على فهمه وخبرته وتشريحه لتركيب الحرف العربي.
يحاول شوكت بهذه الممارسة التجريبة أن يدفع باللوحة الخطية للفهم المعاصر، مستفيدا من خبرته، معتمدا على إعطاء الحروف صبغة تجريدية، حيث يرى الفنان أن الحرف العربي مثير فني وبصري قوي حتى لو كان غير مقروء ومفهوم بالنسبة لمتلقيه، فهنالك قيمة جرافيكية كبيرة كامنة في الحرف العربي كرمز وعلامة يمكن أستغلالها بطرق وأساليب مبتكرة وغير منتهية.
حروف شوكت غير مقروءة لحد بعيد نظرا لتعامل الفنان معها كأشكال بعيدا عن مضمونها اللغوي الكتابي، لكن رغم هذا يظل الفنان محتفظا بروح الحرف المتقنة في تكوينه الخارجي، والفكرة من هذه التجربة هي المحافظة على اللربط بين الحرف في شكله وظاهرة مع التلاعب في سماكات وإنحناء الشكل.
ولأن الفنان يجنح إلى التجريب فقد أدى هذا إلى اشتغاله على خامات مختلفة تنوعت بين تصميم الجرافيك تارة واللجوء إلى الحبر والورق أخرى واستخدام الطباعة ثالثة.
مصعب الدوري
يشتغل الفنان مصعب الدوري على الخط الكلاسيكي بأسلوب فني تظهر فيه الخلفية التشكيلية الملونة كركيزة لإبراز جماليات العبارات التي يكتبها والتي تراعي قواعد النسخ والرقعة والثلث، وهو ما بدا في أعماله الثلاثة المشاركة في "ملكوت الحروف"، حيث اعتمد الفنان على تكوين خلفيات بتقنية "الجدار" لتأتي العبارات والأقوال والحكم المكتوبة بارزة وصريحة، وقد أثرت ألوان الخلفية الرمادية المنفذة على الأعمال فصبغتها بصبغة عتيقة تحمل كثيرا من الذكريات.
وقد تماشى هذا الطرح الفني مع ما حملته اللوحات من عبرات ومضامين لحكماء وقادة، فتناولت أولى الأعمال مقولة للأب المؤسس لدولة الإمارات الشيخ زايد طيب الله ثراه فحواها: "من ليس له ماض ليس له حاضر"، وتعالج ثاني الأعمال مقولة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: "قالوا يغرد دون السرب وانتقدوا.. يكفي بأني أنا الغريد يا عرب"، وتأتي مقولة غاندي "الحب نقطة العبور للحياة" لتتوشح بها ثالث أعمال مصعب المشاركة.
وقد عمد الفنان إلى استخدام خط الثلث في اللوحات، معتمدا على استخدام فراشي الألوان وهو ما منح الخطوط ليونةً في التكوين.
ماجد اليوسف
يبدو أن إخراج الخط العربي من تقليديته المعهوده كان هدف عدد كبير من المشاركين في المعرض، هذا ما يمكن رصده في كثير من أعمال "ملكوت الحروف" التي أتي من ضمنها مشاركة الفنان ماجد اليوسف في خمس لوحات اعتمدت على خصائص الحرف العربي، دون أن يبدو فيها الحرف بشكله المألوف، فيأتي أول الأعمال المكون من أربع لوحات منفصلة ليأخذ الحرف فيه مساقا تشكيليا من خلال التلاعب بالظل والنور وإيهام المتلقي بمساحات من الكتل والفراغ، لكن بتدقيق المشاهد يكتشف أنه لا وجود للحرف في فضاء اللوحة، لكنه الإيهام البصري هو اللاعب الأساسي في تلك اللوحات الأربع.
في أعمال اليوسف الأخرى نرى تقنيات مغايرة ومختلفة في تكوين العمل، فنرصد عملين يعتمدان على تجريد الحرف من مضمونه اللغوي واستخدامه كشكل هندسي، فيما أخذ العملان الآخران بُعدا مغايرا بالتعمق في التجريد ليمسي الحرف شكلا تشكيليا بعيدا عن مقروئيته، وهنا نرصد تنوعا فنيا كبيرا في عمل الفنان الواحد، ناهيك عن التنوع الثري الذي جمع عشاق الخط العربي بكل أطيافهم ومشاربهم في هذا الفضاء الفني ليجسدوا الحروف في "ملكوتها".