منذ وصول "بايدن" إلى سُدة الحكم في "البيت الأبيض" ثمة مفارقة بارزة في سياسته تجاه روسيا وإيران.
فواشنطن كانت تصنّف الاثنتين خلال العقود الماضية في خانة واحدة، وهي خانة "العداء"، وفي سبيل ذلك لجأت إلى فرض مختلف أشكال العقوبات ضد موسكو وطهران، بل وصلت في حالة إيران إلى تصنيف قوات "الحرس الثوري" في لائحة المنظمات الإرهابية، قبل أن تغير من سياستها تلك تجاهها لاحقا، بل وتقترب من عقد اتفاق معها حول برنامجها النووي.
انطلاقا من هذه السياسة، مارس "بايدن" أقصى أنواع الحسم ضد روسيا، وانتهج سياسة أقرب للشخصية ضد "بوتين"، إلى درجة وصفه بـ"القاتل"، ومع الأزمة الأوكرانية رفع "بايدن" من درجة الوصف إلى وسمه بـ"مجرم حرب".
في المقابل، مارس "بايدن" سياسة في غاية المرونة تجاه إيران، وبدا في كل حركته وكأنه مصمم على تقديم كل التنازلات المطلوبة لها من أجل التوصل إلى اتفاق نووي جديد معها، يعيد إحياء الاتفاق النووي الذي وُقّع عام 2015 في عهد أوباما، قبل أن ينسحب منه "ترامب" عام 2018، دون أي مراعاة من "بايدن" لهواجس الحلفاء المتوجسين من دور إيران وأجندتها الإقليمية، لا سيما برنامجها للصواريخ الباليستية، التي تشكل تهديدا لحلفاء أمريكا التاريخيين، وفي مقدمتهم إسرائيل.
في الحالة الروسية، اتخذ "بايدن" من الأزمة الروسية-الأوكرانية منصة إطلاق على موسكو، فحشد من خلفه حلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، لممارسة أقصى أنواع الضغوط السياسية، والدبلوماسية، والأمنية عليها، حتى لو أدى ذلك إلى حرق أوروبا بفقدان نار الطاقة القادمة من روسيا، ووضعها في خانة الحرمان من القمح، والدخول في مرحلة فقدان الغذاء، وغلاء المواد الأساسية، التي يدفع ثمنها المواطن الأوروبي، بل وحتى الأمريكي.
أما في الحالة الإيرانية، فتحوَّل "بايدن" إلى "حمامة سلام" على حساب حلفاء أمريكا، دون أي اعتبار لهواجسهم الأمنية، مسلّما بغالبية الشروط الإيرانية، وعلى رأسها رفع مختلف العقوبات المالية، التي سيؤدي رفعها إلى حصول إيران على مليارات الدولارات المجمَّدة في البنوك الغربية، في مقابل مليارات الدولارات الروسية، التي تم تجميدها مؤخرا.
الأدهى من كل ما سبق، إذا استجابت واشنطن للشرط الإيراني برفع "الحرس الثوري" من لائحة المنظمات الإرهابية، وهو ما يتوقعه كثيرون في ظل سابقة رفع مليشيا الحوثي الإرهابية من هذه اللائحة رغم اعتداءاتها المستمرة على أمن دول الخليج العربي واستهدافها منشآت مدنية، ذهب الأمريكي إلى حد تقديم ضمانات مكتوبة لموسكو بأن علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران لن تتأثر بالعقوبات، التي فُرضت عليها بسبب الأزمة الأوكرانية حال التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، حيث تُبدي إدارة "بايدن" كل ما هو ممكن للتوصل إلى الاتفاق الذي تنشده.
"بايدن" في مفارقاته تجاه كل من روسيا وإيران، يبدو كمن يسير نحو متاهة داخلية وخارجية، ففي الداخل، الذي ينتظر استحقاق الانتخابات النصفية للكونجرس في نوفمبر المقبل، تشير كل المعطيات إلى أنه سيخسر هذه الانتخابات لصالح الجمهوريين، فالأزمة الأوكرانية أظهرت عجز إدارته، وخفضت شعبيته إلى أدنى مستوى، فيما الجهود، التي يبذلها للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، ألحقت خسارة مضاعفة بهذه الشعبية لصالح الجمهوريين، الذين باتوا يقولون إن هذا الاتفاق سيجعل من "بايدن" أكبر داعم للإرهاب في العالم، على اعتبار أن الأموال الإيرانية، التي سيُفرج عنها، ستذهب إلى "الحرس الثوري" وأجندة إيران الإقليمية التخريبية.
وفي الخارج لا تلقى السياسة، التي يتبعها "بايدن" تجاه النووي الإيراني، قبولا لدى الحلفاء في الشرق الأوسط والخليج العربي، وما التحركات الجارية بين عواصم المنطقة لكيفية التعاطى مع هذه التحولات، إلا تعبيرا عن الرفض المضمر لهذه السياسة، ومحاولة البحث عن ترتيب الأوضاع في مواجهة الاستحقاقات التي ستنتجها هذه المتغيرات، خاصة إذا استثمرت إيران في الاتفاق النووي المرتقب لزيادة نفوذها الإقليمي، ووترت في سبيل ذلك من الأوضاع في الساحات التي لها بها أذرع، كاليمن ولبنان على سبيل المثال.
مفارقات "بايدن" تجاه إيران -مقارنة بروسيا- لا تبدو مفهومة، وإنْ حاول البعض وضعها في إطار الخطوات التحضيرية لعزل الخصم الصيني، والثابت أن "متاهة بايدن تكبر يوما بعد آخر"، على وقع استحقاقات الداخل والخارج، وهي متاهة كأنها صُمّمت لأفول عهد أمريكي عقب الانسحاب الدراماتيكي من أفغانستان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة